النظام السياسي السوري هو نظام قومي عربي كما هو معروف، والقومية العربية هي فكر كان رائجا في المشرق العربي في أواخر القرن 19 وفي النصف الأول من القرن العشرين.
تلك الفترة من التاريخ تسمى “عصر الإمبراطوريات”. عصر الإمبراطوريات بدأ في أوروبا منذ القرن 16 ووصل إلى ذروته بعد توحيد ألمانيا في عام 1871 وإعلان قيام “الرايخ” الألماني أو الإمبراطورية الألمانية.
في عصر الإمبراطوريات كان هم الأوروبيين هو بناء إمبراطوريات كبيرة تتفوق على الإمبراطوريات الأخرى ويكون لها هيبة وشأن في العالم. هذا الطموح انتقل إلى السوريين خلال القرن 19، ومن هنا جاءت جذور الفكر القومي العربي الذي نشأ في ولاية حلب العثمانية بجهود مفكرين من أمثال ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وغيرهم.
الفكر القومي العربي نشأ في ولاية حلب لأن هذه الولاية كانت هي خط التماس بين العرب والأتراك حكام الدولة العثمانية. ولاية حلب في القرن 19 كانت ولاية متعددة الإثنيات وكان قسم كبير من سكانها من الأتراك والأرمن والأكراد. مدينة حلب نفسها كانت تحوي غالبية عربية ولكنها كانت تحوي أيضا أقلية مهمة من الأتراك تصل نسبتها ربما إلى 20% من السكان أو أكثر. أما الأقضية الشمالية من ولاية حلب (كقضاء مرعش مثلا) فإن غالبية سكانها كانوا من الأتراك والأرمن.
الفكر القومي العربي كان متأثرا بالأفكار القومية الرائجة حينها وكان يطمح في صيغته النهائية إلى بناء “إمبراطورية عربية” تنضم إلى الدول الكبرى في العالم.
الفكر القومي العربي انتقل من سورية إلى العراق بعد غزو الفرنسيين لدمشق في عام 1920. الملك فيصل (الحاكم الاسمي لسورية الكبرى بين عامي 1918 و1920) انتقل بعد أن طرده الفرنسيون من دمشق إلى بغداد حيث أقام له البريطانيون هناك مملكة جديدة هي المملكة العراقية، ومع الملك فيصل وصل الكثير من القوميين السوريين الذين نقلوا الفكر القومي العربي إلى العراق.
تدفق القوميين من سورية إلى العراق استمر خلال عقد الثلاثينات بسبب مطاردة السلطات الفرنسية لهم في سورية، وأيضا كان هناك تدفق مشابه نحو مصر (تدفق المفكرين من سورية إلى مصر هو ظاهرة قديمة بدأت منذ خروج مصر من الحكم الفعلي للعثمانيين في القرن 19).
انتقال القوميين من سورية إلى العراق ومصر نشر الفكر القومي بين النخبة في هذين البلدين. في مصر كان تقبل الفكر القومي العربي ضعيفا نسبيا لأن مصر في القرن 19 كانت معزولة عن العالم الإسلامي وكانت قد كونت لنفسها هوية قومية خاصة بها. ولكن إنشاء الجامعة العربية في الإسكندرية في عام 1945 وتورط مصر في حرب فلسطين في عام 1948 هي أمور ساهمت في انتشار القومية العربية بين النخبة البرجوازية المصرية، وهذا الانتشار زاد أكثر بعد الوحدة المصرية-السورية في عام 1958.
القوميون العرب كانوا منذ العشرينات والثلاثينات يطمحون إلى إدخال مصر في القومية العربية لأنهم كانوا يعتقدون أن ذلك سوف يسهل نشرها في بقية أنحاء العالم العربي وبالتالي تحقيق حلمهم في إقامة “الإمبراطورية العربية”. القوميون العرب في ذلك الزمن كانوا مهووسين بفكرة الوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج وكانوا يرفضون أي شيء أقل منها. هم مثلا عارضوا أفكار أنطون سعادة اللبناني الذي دعا إلى توحيد منطقة الهلال الخصيب لأنهم كانوا يرون أن هذه الأفكار سوف تدفع مصر وبقية العالم العربي بعيدا عن منطقة الهلال الخصيب وبالتالي سوف تجهض حلمهم في إقامة الدولة الأسطورية التي تمتد من المحيط إلى الخليج.
طروحات القوميين العرب نجحت جزئيا عندما تبنت مصر القومية العربية في الخمسينات والستينات. مصر في حقبة الخمسينات والستينات كانت الدولة العربية الأولى في الإعلام والثقافة والفنون (وذلك لأسباب تاريخية كون مصر استقلت فعليا عن العثمانيين منذ بداية القرن 19). لهذا السبب فإن تبني مصر للقومية العربية ساهم في انتشار هذا الفكر في عموم العالم العربي كما كان القوميون العرب يطمحون.
القوميون العرب ربطوا مشروعهم بمصر وعلقوا نجاحه على تبني مصر له. هم مثلا رفضوا الوحدة بين سورية والعراق بحجة أننا بحاجة لمصر ولا نريد إغضابها. (أنا شخصيا قلت في تدوينة سابقة أنني لا أصدق أن الخزعبلات التي تتحدث عن عدم إغضاب مصر هي السبب في عدم توحيد العراق وسورية. أنا أعتقد أن عدم توحيد سورية والعراق كان سببه طمع حكام سورية الدمشقيين بالسلطة والنفوذ وهم تشبثوا بقصة مصر كذريعة لعدم ترك السلطة).
هذا الربط بين نجاح المشروع القومي وبين تبني مصر له انقلب على القوميين العرب بصورة شنيعة عندما خرجت مصر من المشروع القومي العربي في السبعينات بعد وفاة عبد الناصر. القوميون العرب ربطوا مصير مشروعهم بمصر، وعندما تخلت مصر عنه فإن هذا المشروع انهار.
القوميون حاولوا إيجاد البديل في العراق كونه بلدا غنيا ويمكن أن يعوض خروج مصر، ولكن حرب العراق مع إيران وما تلاها من تدمير للعراق واستئصال للفكر القومي منه أجهض تماما المشروع القومي العربي. حاليا لم يعد هناك لبقايا القوميين العرب أي نصير سوى إيران، وهذه بالفعل مهزلة.
سورية الآن برفعها للواء القومية العربية هي بالفعل كمن يعيش في عالم الخيال أو يحارب الطواحين. سورية الآن هي أشبه بمن يمشي وهو مغمض العينين ولا يرى ما يحدث من حوله.
أنا أتابع الإعلام العربي منذ فترة، وأستطيع أن أقول التالي:
في المغرب العربي لا يوجد شيء اسمه قومية عربية سوى لدى بعض النخب والمفكرين. لا يوجد في المغرب العربي تيار قومي عربي حقيقي. القذافي كان هو القومي العربي الوحيد في تلك المنطقة، وفي الحقيقة أن شعبه لم يكن معه خاصة وأنه في سنواته الأخيرة شطح كثيرا وصار أفريقيا-غربيا ولم تعد له بالعرب علاقة تذكر.
مصر ليست بلدا قوميا عربيا حتى بعد سقوط مبارك. التيارات الرئيسية في الشعب المصري هي تياران: تيار إسلامي رجعي وتيار أميركي. أما القوميون العرب في مصر فهم من جيل محمد حسنين هيكل وحمدي قنديل، أي أنهم من جيل عفا عليه الزمن بصراحة.
الإعلام المصري في الآونة الأخيرة كان يهلل لعمليات الناتو في ليبيا والآن هو يهلل لما يحدث في سورية. هذه إشارة قوية على توجهات الشعب المصري.
أما الجزيرة العربية فحدث ولا حرج. الإمارات المتحدة هي الآن أشبه بولاية أميركية. الأمور في الإمارات وصلت إلى حد أن أميركا لم تعد تمانع بيع أسلحة متطورة جدا للإمارات ونقل تقنيات صناعية متطورة إليها لأن الأميركان صاروا يعتبرون أن الإمارات هي حليف مضمون ومن المستحيل أن ينقلب على إسرائيل. الإمارات على ما أعتقد هي البلد العربي الوحيد الذي وصل إلى هذه المرحلة من الثقة عند أميركا. السعودية مثلا ما زالت بعيدة عن الثقة الأميركية وما زالت النخبة الأميركية تتوجس منها (أنا شخصيا أعتقد أن السبب الأساسي لذلك هو أن السعودية شاركت في حربي 1948 و1973 ضد إسرائيل ولو بشكل رمزي، ولذلك فالأميركان لا يثقون بها).
أما العراق فهو حالة مختلفة. الشعب العراقي هو أصلا شعب عروبي ولديه ثقة كبيرة بنفسه بخلاف الشعوب الأخرى المنبطحة، ولكن ما جرى في السنوات الأخيرة زرع في العراق بذور التفتت والأمركة الفكرية.
مصر في الخمسينات والستينات كانت تعج بالمفكرين القوميين النهضويين، ولكن الغزو الثقافي الأميركي دمر هذه الطبقة من المثقفين واستبدلها بطبقة جديدة من أمثال صفوت الزيات الذي يريد تدريس انتصارات الناتو في ليبيا في الكليات العسكرية. ما حدث في مصر للأسف هو عملية استئصال للكرامة القومية والوطنية واستبدالها بثقافة جديدة تقوم على الدونية والخضوع.
ما نخشاه هو أن العراق يسير على نفس الطريق وأن هناك عملية أمركة تتم فيه لاستبدال ثقافة الكرامة الوطنية بثقافة الدونية والخضوع وبثقافة “اللبننة”، أي الانشغال بالصراعات والنزعات الداخلية وتقديمها على المصلحة الوطنية.
بعد أخذ كل ما سبق في الاعتبار، لماذا نستغرب أن تطرد سورية من جامعة الدول العربية؟
سورية بصراحة تسبح عكس التيار وتخوض معركة خاسرة. معظم الرأي العام العربي هو الآن ضد سورية، ولو أجريت استفتاءات لتبين أن غالبية العرب يؤيدون تدخل الناتو في سورية.
سورية خسرت المعركة الإعلامية منذ زمن بعيد جدا. قناة الجزيرة افتتحت في عام 1995، فماذا فعلت سورية منذ ذلك الوقت حتى الآن؟
أين هي القنوات الإخبارية السورية؟ أين هي الصحف السورية؟ أين هو المجتمع المدني والثقافي السوري؟
النظام السوري طوال السنين الماضية كان يعمل بعقلية عجيبة جدا، فهو كان ينتظر من المثقفين اللبنانيين والعرب أن يدافعوا عنه وعن فكره، بينما كان يبطش بالمثقفين السوريين ويقمعهم ويمنعهم من الكلام. والآن عندما حانت ساعت المواجهة انفض عنه معظم من كان يعول عليهم للدفاع عنه. الجزيرة وعبد الباري عطوان وغيرهم ممن كان النظام السوري يكرمهم ويدعمهم ويعتبر (بسذاجة) أنهم إلى صفه كلهم انقلبوا ضده. حتى وسائل الإعلام اللبنانية التي كانت محسوبة عليه هي الآن تدافع عنه باستحياء وبلا حماس (من ذلك مثلا قناة “الجديد” التي كان النظام يعتبرها من قنواته ولكنها الآن تلزم الحياد، ونفس الأمر ينطبق على جريدة السفير والأخبار وغيرها).
بصراحة النظام السوري الآن يقف وحيدا، ولا يوجد أحد يدافع عنه إلا المرتبطين به بشكل مباشر سياسيا أو من الذين تحركهم المخاوف الطائفية. مثلا الحكومة العراقية تدعم سورية الآن ليس حبا بالقومية العربية وإنما لاعتبارات طائفية. أيضا المسيحيون في سورية ولبنان يدعمون النظام لنفس السبب.
أميركا أنفقت في السنوات الأخيرة المليارات لغسل عقول العرب بمن فيهم السوريين، فماذا فعل النظام السوري للتصدي لهذا الأمر؟ لم يفعل شيئا سوى مواصلة القمع وإسكات الناس واحتكار الإعلام السوري لمصلحة قناة تلفزيونية خاصة واحدة ذات مستوى مهني متدني.
سورية تعاني منذ سنوات بعيدة من قحط ثقافي وفكري وإعلامي. كيف يمكن لهكذا بلد أن يكون مصدرا لفكر وكيف يمكن له أن يواجه المد الأميركي الذي رصدت لأجله مليارات الدولارات؟
ما أريد قوله هو أن منظومة النظام السوري الفكرية والسياسية كلها صارت من التاريخ. لم يعد هناك أحد في العالم العربي الآن يفهم شعارات النظام السوري وأهدافه. غالبية العرب لا تميز بين النظام السوري وبين نظام حسني مبارك وهم يتعاملون مع الاثنين بنفس المكيال. لا توجد دولة عربية واحدة تتعامل مع سورية بوصفها “دولة ممانعة” ومقاومة. هم يتعاملون مع سورية وكأنها اليمن أو مصر أو تونس. الدول الوحيدة التي تحسب حسابا لقصة الممانعة هي دول بعيدة وغير عربية كروسيا والصين وأميركا اللاتينية والهند وإيران.
هناك فشل إعلامي وسياسي مزر للنظام السوري. النظام بصراحة خسر المعركة الإعلامية والسياسية تماما أمام أميركا وإسرائيل ولم يعد هناك مجال للاستمرار في هذه المعركة.
الكلام عن أن سورية “ستخرج منتصرة” هو بالنسبة لي كلام غريب. ما هو معنى الانتصار المقصود بهذه العبارة؟ هل المقصود هو الانتصار الأمني؟
ما فائدة “الانتصار” المزعوم إذا كان غالبية العرب وجزء كبير من الشعب السوري لن ينظروا له على أنه انتصار وإنما سيعتبرونه هزيمة لهم؟
دعاية النظام السوري وشعاراته وكلامه لم يعد لها أي تأثير على العرب في هذا العصر. عندما يتحدث النظام السوري عن الممانعة والمقاومة والعروبة فهذه الأمور لا تعني شيئا لغالبية العرب. هناك حاليا كثير من العرب ممن يعتبرون أن مقاومة أميركا هي خطأ من الأساس ويرون أنه يجب أن نوقف هذه المقاومة ونقبل بحكم أميركا لنا.
أميركا “روضت” العرب وأقنعتهم بأن مقاومتها ومقاومة إسرائيل هي أمور عبثية.
كيف يمكن لسورية لوحدها أن تتحدث عن المقاومة والوحدة العربية بينما باقي الدول العربية هي تعيش في عالم آخر؟
“الوطن العربي” الذي تتحدث عنه الأيديولوجية السورية لم يعد له أي وجود. الوطن العربي بالمفهوم السوري هو حاليا إيران فقط، بالإضافة إلى بعض الشخصيات والنخب العربية التي يتجاوز متوسط أعمارها الخمسين عاما.
الشباب العربي لا يفهم إطلاقا معنى القومية العربية. أنا نفسي شاب وأعرف هذا الأمر جيدا. السبب الوحيد الذي جعلني شخصيا أتبنى هذه الأفكار التي أكتبها في المدونة هو قراءتي لكتب التاريخ. قبل قراءتي للتاريخ أنا شخصيا لم أكن أفهم الأيديولوجية القومية وكنت أظن أنها مجرد شعارات جوفاء (ولذلك قلت من قبل في المدونة أن الأجدى بالحكومة السورية هو أن تلغي منهاج الثقافة القومية الفاشل وتستبدله بمنهاج آخر يركز على تاريخ الأمم والشعوب).
سقوط النظام السوري إن حدث لن يكون نتيجة مؤامرة خارجية ظرفية بقدر ما أنه نتيجة طبيعية لحركة التاريخ. المنطقة تغيرت كثيرا والنظام السوري بصراحة فشل في أن يواكب المتغيرات وظل يعمل وكأنه في الستينات.
سورية الآن هي أمام خيارين لا ثالث لهما:
- إما أن تطبق الشعارات القومية فعلا لكي تقنع الناس بها وبأنها قابلة للتطبيق.
- أو أن تلغي هذه الشعارات وتبحث عن أيديولوجية جديدة.
ما تريده أميركا وأتباعها هو الخيار الثاني، أي تغيير العقيدة السياسية لسورية، وهو ما حدث في العراق مثلا حيث تم هناك القضاء على الفكر القومي العربي وأدخلت مكانه ثقافة التجزئة والتقسيم والصراعات الطائفية.
الدولة السورية لم تعد قادرة على الاستمرار بنفس الوضعية التي كانت عليها في السابق، بمعنى أن تحقن الناس بشعارات لا يلمسون أثرها على أرض الواقع. الدولة السورية الآن أمام خيارين، إما أن تطبق أفكارها عن الوحدة العربية بشكل عملي أو أن تتخلى عن هذه الشعارات التي بات الناس يفسرونها على أنها ذريعة للنظام لكي يبقى في السلطة تحت شعار المقاومة والممانعة.
تخلي سورية عن الأيديولوجية القومية سيقودها على الأغلب إلى التفتيت والتقسيم، ولذلك أنا أفضل قبل سقوط النظام السوري (إن كان سيسقط) أن يقوم هذا النظام بمحاولة أخيرة للوحدة العربية. محاولة الوحدة إن تمت ربما لاتنجح ولكن مردودها الإعلامي والدعائي سوف يؤثر في عموم العالم العربي وسوف يكون له أثر شبيه ربما بأثر الثورة التونسية، بمعنى أنه سوف يشجع دولا عربية أخرى على التوحد.
أنا لا أعلم ما سيحدث في سورية في الأشهر القادمة، ولكنني أتساءل في حال صمد النظام السوري عن فائدة الاستمرار في عقيدة سياسية تجعلنا على عداء ليس فقط مع العالم الغربي وإنما أيضا مع العالم العربي الذي نزعم أننا ندافع عنه. هناك شيء خاطئ في الوضع الحالي ولا يمكن أن يستمر.
النظام السوري يستمر في الترويج لمقولة أن عقيدته هي عقيدة الشعوب العربية، وهذا أمر لا نلمس له أي أثر في الواقع. الواقع يقول أن الشعوب العربية بمجملها تعادي عقيدة النظام السوري القومية وترفضها.
View Original