يوما بعد يوم، يزداد انغماسي بهذه المدينة، تأخذني إليها أكثر وتزيد من شباكها وضياعها فيّ، ترسم حولي خيوطها الوهمية بحرير من الحرية والراحة، تزيد فيّ الخوف من فراقها، وتعصم نفسها كعاصمة الشمال البارد، تحاول أن تًجمُدَ في أركاني، راكنا إليها كحبيبة أسكرتني بفتنة تزداد مع دوران الرأس فتنتها، تبكي أمطارها حين يعتكر المزاج وألعن ساعة اللقيا بها، فتنحني لتضع رأسها على كتفي، لتلتجي إلي، بخداع طفل يرغب بحضن أمه، وحين تأتمن من نفسي بقيا وسكون وتستشعر لجوئي إليها تعصف بجبروتها، لتقول لي، أن أنا وكن أنت من تكون، أتكور في ثنايا صدرها محتميا من غضبها الثلجي العاصف لتغمري بدفء سباتها الثلجي، وترمي عليّ بقشيب ثليجها كيَدي أميمة التفت حول وليدها، هكذا أنا وهي على طرفي نقيض، كمحبين زادهما هجران الأحبة ثورانا ولجوءا إلى الأخر، أرمي إليها نظراتي شذرا وأقول لها كم رميت بأحبتكِ ولفظتيهم، كم كنت ماكرة معهم، لترد علي بتقريع أزهري أن أنت لست أفضل بنكران ترابك، بهروبك القدري من ربيبتك في الوطن، وأنت ما زلت هاربا، تائه الفكر واللظى يملئ رأسك، جاعلا شعرك وشعورك منتصبا ومتشعثا في كل الاتجاهات، كمن لاثته دهور من الحروب والحب. لتقول لي بهزء وسخرية: “لك روح عمي روح، مرق على راسي كتير من أمثالك، ولك حتى لو كنت وفي، نهايتك مترين بمتر في جوفي”، ساعتها أضرب بقدميّ أرضها معلنا احتجاجاتي الشعواء دون فائدة ترجى، أنحني على أرضها وأقول كمن رأى هامة تتلاشى لثأر طويل على المدى، وأنتِ ما أنتِ سوى لعوب جرت عليها الدهور ليزيدَ من شيبها وتجاعيدها فلا أشجارها جمّلتْ ولا حدائقها أخفت شحوبها وشحوب بنينها المتزايد يوما بيوم، أضحك بسري لانتصاري بجولة، وأعانقها وأفرك شعرها الشجري كمداعبٍ يحاول إنهاء جولة دون خسارة متجددة، نترافق حينها إلى باب حاناتها المعتقة بزهو الحب المفضوح، ونتشارك نخب يومنا المنتهي، وكل منا يزدرد شرابه بحسرة على ما مضى من الأحبة، وبأمل استمرار لقاءنا المنتهي بعد ثالث نخب.
نستيقظ في اليوم التالي ودوار الشراب في الرأس يتصدع لنتبادل النظرات ونقول بسرنا المسموع “تعب كلها الحياة” ونعود على رؤيا يوم سابق، بأمل الربيع المتناهي خريفا في نهاية كل يوم.
مدينتي الجديدة مونتريال، فيك من أهلي ودياري الكثير، لكن وفائي لمدينتي يمنعني من رؤيتك ببهائها، يقلقني من ألم الخيانة التي ستيعيرني بها لو فعلت، وحتى لو حاولت الجمع بين حبيبتين “فما الحب إلا للحبيب الأول” أتمنى لي ولكِ ذاكرة من النسيان نحياه بأثر الشراب في عناقنا الجديد.
Filed under: Uncategorized

View Original