“سيأتي وقت يكون فيه هذا الحاضر ذكرى ، و سيتحدث الناس عن عصر عظيم ، و عن أبطالٍ مجهولين صنعوا التاريخ .. و ليكن معلوماً أنهم ما كانوا أبطالاً ، إنهم بشر .. لهم أسماء و قسمات و تطلعات و آمال ، و إنّ عذابات أصغر هؤلاء شأناً ما كانت أقل من عذابات من خُلّدت أسماؤهم..”
هي عباراتٌ مقتبسة سمعتها على لسان صديقي قبل سنوات ، صديقي الذي شاءت الأقدار فيما بعد أن يكون شاهداً على كثيرين من أولئك الأبطال المجهولين ، لم يكن زياد إلا أحدهم..
زياد، شاب في أواخر الثلاثينات من العمر- أو لعله بلغ الأربعين ، من حي حمصي تناسته وسائل الإعلام.. لم ألتقِ به يوماً ، إلا أنّ ما حدّثني به صديقي كان كافياً ليجعلني أسأله عنه في كل مرة تحادثنا بها.. بل قبل أن أرد عليه السلام !.. وفي كل مرة كان يأخذني إلى عالمه السحري، حيثُ تتمثل التضحية و الشجاعة و الإيثار في عامل بناء لم يسعَ للشهرة يوماً ..
و هاكم الحكاية.. من البداية :
لم يسبق لزياد أن شعر بالتوتر كما شعر حينها .. واقفاً في إحدى أزقة حمص ، مع محمود و أبي عادل ، كان كل حين يسترق النظر إلى ساعته ، ثم يتفقد رزمة النقود التي في جيبيه ، النقود التي من المفترض أن تنقذ حياة غسان..
تجاوزت الساعة الرابعة عصراً ، إلا أن الوسيط لم يأتِ كما هو متفق.. كانت الدقائق تمر ثقيلة على الثلاثة.. (هل أخطأنا المكان؟) لم يكد زياد يدير بوجهه إلى رفاقه حتى جاءه الجواب من خلفه بصوت غريب (ارفعوا أيديكم !!)..
و غدر الوسيط بزياد ! ..لينضمّ و رفاقه إلى عداد المخطوفين.. كما سبقهم غسان إلى ذلك قبل أيام !
وأُجبر الثلاثة على الركوب في إحدى السيارت، أما محمود فقد أرغمه الشبيحة على الجلوس في صندوق السيارة الخلفي! .. و في طريقهم إلى المجهول ، أرادت المشيئة الإلهية أن يتمكن محمود من فتح صندوق السيارة و الإفلات من أيدي الخاطفين..
توقفت السيارة أخيراً ، ليهرع إليها عشرات الشبيحة و يبدؤوا طقوسهم السادية في استقبال “الضيوف” !
غارقاً في دمائه ، مكبّل القدمين و اليدين ، كان زياد يسمع صوت تحطم عظامه تحت العصي الغليظة التي تنهال عليه بحقد أعمى في كل مكان من جسده ، ممزوجة بأقذع العبارت و الشتائم.. غير أنّه لم يأبه لها كثيراً بقدر ما كان باله مشغولاً على أبي عادل .. أبوعادل الشيخ الذي ناهز السبعين من العمر.. كان قد أصيب بطلق ناري عند مشاركته في إحدى المظاهرات الأسبوع الفائت ، كما خضع لعمل جراحي قبل ذلك بشهر .. و جراحه لم تندمل بعد.. إلا أن أولئك الوحوش لا يراعون كبيراً و لا صغيراً ، حيث انهالوا عليه بالضرب بكل ما أوتوا من قوة.. كما لم يتركوا مكاناً من جسده ، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ، لم يصعقوه فيه بالكهرباء !
و استمرت حفلة التنكيل على هذا المنوال لعشر ساعات متواصلة، و بينما هو ملقى على الأرض بين الحياة و الموت ، رأى زياد أقدام إمرأة تتقدم نحوه.. (أنتم تسمّون بالله قبل أن تذبحوا الذبيحة ، أما نحن فلا نسمّي ! ) قهقهت و الحقد يسيل من قسمات وجهها القاسية.. ثم.. كانت الحلقة الأكثر رعباً : طقوس الذبح !
ألصق الشبيحة معصميه و أذنيه بلاصق عريض.. تسهيلاً لقطعهم ! كما ألصقوا عينيه بلاصق – نصف شفاف و هما مفتوحتان كي يشهد عملية الذبح ، زيادةً في الرعب !- و تمهيداً لاقتلاعهما !.. ثم أخذوا يسنّون السكاكين ..
هي النهاية الأليمة..الشنيعة.. القاسية..المتوحشة – سمّوها كما شئتم- قد دنت من زياد ..الإنسان ذو القلب الرقيق الطاهر الذي لا يعرف الحقد.. الإنسان البسيط الذي جازف بحياته منذ بداية الثورة و بذلها رخيصة في سبيل الآخرين.. و لا أبالغ إن قلت أنه الإنسان الأكثر إنسانية في حمص كلها..
نطق زياد بالشهادتين ، مسلّماً بقضاء الله و قدره.. و مع ضربات قلبه المتسارعة لم يكن يشغله إلا ما سيحل بأطفاله الثلاثة و زوجته الشابة عندما تتسلّم جثمانه مقطع الأوصال !
| توقف صديقي عن الكلام.. و توقف قلبي معه ! ..
- (ذبحوا زياد !!!!) اغرورقت عيناي بالدموع..
- (لا..) و ابتسم..|
لقد شاءت العناية الإلهية أن يتدخل الأمن في اللحظة الأخيرة و “ينقذهما” من ذبحٍ محتم.. و كما هو التعبير الشائع “من تحت الدلف لتحت المزراب” ، كان بانتظار صاحبينا في فرع الأمن موتٌ من نوعٍ آخر..
أهي الصدفة المحضة مجيء الأمن في تلك اللحظة ؟ أم أنّ كل شيء كان مرتباً منذ البداية ، و أنّ هؤلاء الشبيحة ليسوا إلا “مكتباً مخصصاً لاختطاف المطلوبين” تابعاً لجهة أمنية؟ ..ظل هذا التساؤل يشغل بال زياد إلى أن التقى بصاحبه المخطوف ” غسان” في إحدى زنازين فرع الأمن !
مشبوحاً لثلاثة أيامٍ متواصلة ، بعد حفلات قاسية من التعذيب ، لم يعد بإمكان أبي عادل- الشيخ الكبير- أن يتحمل المزيد .. ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير : دخل ضابط الأمن إلى غرفة التعذيب و أخذ ينهال بالضرب المبرح على أبي عادل المعلق إلى السقف.. ظل أبو عادل صامتاً ، و لم يقل آه واحدة.. إلى أن بلغ السيل الزبى فصرخ بكل قوته (الله أكبر !!) فارتج البناء لهول صوته ، و ساد صمت مطبق في كامل القبو ، و توقف الضابط مذهولاً و هو يستمع إلى أبي عادل الذي لم يترك شتيمة إلا و وجهها إلى النظام الفاشي و أزلامه..!
مصعوقاً ، أنزل الضابط أبي عادل إلى الأرض و هو يقول له : (لاعليك ياعم.. كلنا هنا إخوتك).. (نعم كلنا أخوتك!!.. و تجرؤ على قولها بهذه الوقاحة بعدما فعلت بنا ما فعلت ؟!)..تمتم زياد في نفسه بينما بقي مشبوحاً إلى جانبه !
ثم جاء يوم التحقيق.. في الحقيقة لم يكن يوماً واحداً.. بل إنه تكرر كل يوم !
حاول المحققون جاهدين أن يلصقوا تهمة “العصابات المسلحة” بزياد و جماعته ، إلا أن هؤلاء – على الرغم من التنكيل الذي يفوق الوصف- لم يعترفوا بما لم يقترفوه .. إذ أنهم ليسوا عصابات إرهابية مسلحة !
(و التمويل؟.. الأموال الطائلة التي تصلكم من الخارج) سأل المحقق زياد .. فيما لم يتمكن الأخير من كتم ابتسامته الساخرة..
(اسأل أطفالي..) ، ظن المحقق أن زياد يسخر منه ، فانهال عليه يضربه بجنون.. إلا أن زياد لم يكن يسخر منه بقدر ما كان يعني كلامه جيداً.. فأطفاله لابد يذكرون تلك الليلة عندما لم يتمكنوا من النوم لجوعهم نظراً لأن والدهم وضع كل مؤونة المنزل – على قلتها ، بما فيها ربطة الخبز الوحيدة المتبقية ، وضعها جميعها في الشاحنة التي كانت تجمع المساعدات من حيهم – أحد أفقر أحياء حمص- إلى حي بابا عمرو الفقير المنكوب !
(ألا تخاف؟!).. (منكم ؟ لا..لو كنا نخشى منكم لما خرجنا نطالب بالحرية بصدورنا العالية أمام رصاصكم !) .. قالها زياد للمحقق بشجاعة.. تماماً كما قالها لضابط الأمن في الأشهر الأولى للثورة رداً على نفس السؤال.. عندما جاء إلى المشفى وتحدى المتواجدين أن يثبتوا له بالدليل القاطع أن الأمن هو من يقتل المتظاهرين.. فما كان من زياد إلا أن أخرج هاتفه المحمول و أعطاه للضابط بكل بساطة و براءة وعفوية ! ..(انظر..هذه المظاهرة التي كنتُ فيها و هذا عنصر الأمن يطلق النار علينا..!).. فامتقع وجه الضابط و كشر عن أنيابه ..!
و استمرت جلسات التحقيق و استمر التعذيب معها و بينها.. و في النهاية كان لابد لزياد أن يعترف بشيء ما.. و اعترف زياد !
هي تهمة تهريب الجرحى ، أوصلت زياد و رفاقه إلى هذا القبو .. و تهريب الجرحى يبدأ من انتشالهم من الشوارع و من تحت أنقاض المنازل ، ثم يهرعون بهم تحت زخات الرصاص إلى المشفى ، و يبقون إلى جانبهم لحمايتهم من الأمن حتى يهربوهم من باب المشفى الخلفي ، بعد إشغال الأمن عنهم بأمور أخرى يفتعلونها، ثم في الطريق يبدلون السيارات ليتأكدوا من عدم تتبع الأمن لهم.. و ينقلوهم إلى بيوت آمنة في أحياء أخرى غير أحيائهم ، و يتكفلون بالعناية بهم و إطعامهم إلى أن تشفى جروحهم ، ثم يوصلوهم إلى أحيائهم المنكوبة .. هذه العملية تتكرر لعشرات المرات كل يوم ..
و لا تقتصر أفضال هؤلاء على الجرحى فحسب ، بل إنهم يؤمنون المأوى لكل من لا مأوى له : الأطفال الذين فقدوا أهاليهم ، العوائل التي فقدت بيوتها ، الطلاب الذين هربوا من السكن الجامعي تحت وقع الرصاص المحيط.. كما أنهم يجهدون لإيصال المساعدات الغذائية و الطبية إلى الأماكن المنكوبة.. و في كل تفصيلة دقيقة ، يجازف زياد و رفاقه بأرواحهم .. بكل شجاعة و إيثار..
و مرت أيام طويلة على زياد في زنزانته المظلمة ، تعرض خلالها لتنكيل يشيب له شعر الرأس ، و كان شاهداً على ممارسات شنيعة بحق المعتقلين .. | رفض صديقي التكلم عنها حرصاً على مشاعري الإنسانية!..|
و في صبيحة أحد الأيام ، نقل زياد من فرع الأمن إلى سجن حمص المركزي..
و هناك.. في السجن المكتظ الموحش بكل تفاصيله ، لم يكن يبعث الإطمئنان في قلب زياد إلا رجل واحد.. هو ثائر من الرمل الجنوبي في اللاذقية أمضى شهوراً في السجن قبله، كان كل مساء يتفقد بقية المعتقلين و يغطيهم جيداً بيديه الكبيرتين الحنونتين !
و مرت الأيام مليئة بألم جروحه، و الشوق لعائلته و لمنزله البسيط ، والتوق لاستئناف ما كان يقوم به.. إلا أن الأمل بخروجه كان يتضاءل مع مرور كل يوم ، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي نادى السّجان باسمه.. “زياد”..
و منذ ذلك اليوم ، اعتاد طاقم المشفى على رؤية شاب نحيل ، أعرج ، محروق الجلد حتى السواد ، يربط ذراعه المكسورة إلى عنقه.. كان كل حين يهرع بسيارته لنقل الجرحى من و إلى ذلك المشفى ، متحاملاً على آلام ظهره المزمنة.. و كلما طلب منه أحد أن يرأف بحاله كان يردد عبارته المعتادة : (المهم الله يرضى عنا)..
ويصل نبأ استشهاد محمود في حي باباعمرو ، بعدما انضم للجيش الحر هناك و قاتل ببسالة منقطعة النظير.. و أما أبو عادل و غسان فلا يزال مصيرهما مجهولاً حتى اللحظة ..
و في جيب زياد بقيت ورقة صغيرة شاهدة على إحدى أفظع التجارب التي يمكن أن يمر بها الإنسان.. و على تلك الورقة طبعت العبارات التالية:
“وثيقة إخلاء سبيل .. التهمة: عصابات مسلحة”…!
View Original