عندما تحدثت عن قضية الرهائن كان أول ما قلته هو أن احتمال قيام الغرب بعملية خاصة لتحريرهم هو احتمال كبير بسبب موقع حمص الجغرافي وبسبب عدم إمساك السلطات السورية بالرهائن بيدها، ولكن الغريب هو أن النظام السوري كان خلال الأيام الماضية يتحدث بثقة وغطرسة غريبة إلى درجة أن صحيفة الوطن السورية قالت بالأمس أن هذه القضية ستسقط ساركوزي وستؤدي إلى محاكمته في فرنسا بتهمة الخيانة العظمى.
الآن يتضح أن هذه الثقة والغطرسة كانت نابعة من فراغ ولا تستند إلى شيء.
الغربيون نجحوا في تهريب واحد من المحتجزين على الأقل، وعلى الأغلب أن هذا الذي هرب أخذ معه كل المعدات والمعلومات السرية.
هؤلاء “الصحفيون” المحتجزون كانوا على تواصل كامل مع حكوماتهم خلال الأيام الماضية، وبالتالي عملية تهريبهم كانت حتما برعاية الحكومات الغربية لأنه من المستحيل أن يحاول المحتجزون الهرب إلى لبنان بدون أخذ موافقة حكوماتهم.
الخلاصة هي أن النظام السوري خسر قضية الرهائن ولم يستفد منها شيئا سوى تشديد العقوبات الأوروبية على سورية. على الأقل هذا ما يظهر لنا الآن.
هذه الهزيمة المخزية تضاف إلى الفشل الذريع للنظام في “حسم” معركة حمص. النظام يخوض معركة في حمص ضد “العصابات” منذ حوالي شهر وحتى الآن لا يبدو أن النهاية قريبة. الآن بدأ الأوروبيون يتحدثون عن العودة مجددا إلى مجلس الأمن لإصدار قرار بشأن حمص.
بصراحة الدول الغربية هزمت سورية أمنيا وعسكريا في حمص. النظام السوري فشل في حسم معركة حمص في الوقت المطلوب وفشل في المحافظة على الرهائن، والآن هو سيدفع الثمن بقرارات وعقوبات دولية.
حمص تحولت إلى شيء شبيه بمصراتة الليبية. النظام السوري تأخر كثيرا في حسم المعركة في حمص وأثبت أن سيطرته على أراضيه ليست كما يدعي وأن الغربيين يسرحون ويمرحون فيها تحت أنفه.
الاقتصاد السوري أصغر من الأردني
يستمر مسلسل الانكماش السريع للاقتصاد السوري، وحاليا تقدر بعض المصادر الأميركية حجم الاقتصاد السوري بـ 25 مليار دولار تقريبا، ما يعني أن الاقتصاد السوري صار الآن أصغر من الاقتصاد الأردني والأصغر في المنطقة عموما.
تنمية الاقتصاد هي شيء صعب، وخاصة في سورية. الاقتصاد السوري بين عامي 2005 و2011 كان ينمو سنويا بمعدل 5% تقريبا، وبين عامي 2000 و2004 بمعدل 3% تقريبا، وفي التسعينات بمعدل أقل من 1%، وفي الثمانينات لم يكن هناك نمو بل كان هناك انكماش وفوضى.
الآن نحن نتحدث عن انخفاض من 60 مليار دولار إلى 20 مليار دولار خلال عام واحد فقط، أي أن الاقتصاد السوري خسر خلال عام واحد ثلثي قيمته.
حجم الاقتصاد مرتبط بشكل مباشر بمستوى معيشة المواطنين، ومن يقول غير ذلك هم ناس جهال من أصحاب الفكر الاشتراكي الذين يعتبرون الفقر والإفلاس دليلا على العدالة الاجتماعية.
من المستحيل في رأيي تعويض ما ضاع خلال العام الماضي. لكي يعود حجم الاقتصاد السوري مجددا إلى 60 مليار دولار فهذا يعني أن سعر صرف الليرة يجب أن يعود مجددا إلى 45 ليرة مقابل الدولار ويجب أن تزول كل العقوبات وأن تعود كل الأعمال التي أغلقت والأموال التي هربت وأن يتم تعويض كل الخسائر والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية والاقتصادية. هذا كله كلام خيالي ولن يحصل أبدا.
هناك سيناريوهان للاقتصاد السوري كما قلت من قبل:
- إذا استمر العنف والتمرد فهذا يعني أن الدولة السورية سوف تتقسم في النهاية إلى عدة كيانات، وحجم اقتصاد كل كيان بحاجة لخبير اقتصادي لكي يحسبه.
الخطير في هذا السيناريو هو أن التقسيم لا يعني بالضرورة انتهاء الحرب، خاصة وأن هناك تداخلا سكانيا كبيرا في عدد من المناطق.
العلاقات بين العلويين ومحيطهم في حمص وحماة وإدلب سيئة للغاية، وهذا أمر ينذر بالشؤم وأن الحرب ستطول، وبصراحة أنا أرى أن هناك مصلحة لأميركا في استمرار الحرب طويلا لأن الحرب لو توقفت فهذا ربما يشجع الوهابيين في ريف دمشق على استهداف إسرائيل.
هناك أيضا مشاكل في الحسكة بين الأكراد والعرب، خاصة العرب المعروفين بـ”عرب الغمر” الذين يعتبرهم الأكراد مغتصبي أراضي ويريدون انتزاع أراضيهم منهم.
كل المحافظات السورية تحوي ألغاما وبذور صراعات طويلة، وفي مثل هذا السيناريو أنا لا أريد أن أرهق رأسي بالتفكير في حال المحافظات الأخرى بل سوف أفكر في حال حلب فقط.
بالنسبة لحلب فنحن وضعنا أفضل بكثير من غيرنا، وبالتالي إذا تصرف الحلبيون بحكمة فبإمكاننا أن ننجو من المعمعة وأن نحول الكارثة إلى نعمة.
حلب وضعها الاقتصادي جيد نسبيا لأنها تملك بنية صناعية وزراعية، وكل ما ينقصها هو منفذ إلى البحر وسوق لتصريف البضائع. الحل الوحيد لحلب هو الالتحاق بتركيا لأن هذا سوف يفتح أمامها موانئ لواء الإسكندرون وسوف يمنحها عمقا تجاريا هائلا يمتد إلى الأناضول وأوروبا.
إذا فرطت الأمور فيجب على الحلبيين في رأيي أن ينؤوا بأنفسهم عن الصراعات في المحافظات الأخرى وأن يركزوا على تحسين اقتصادهم بالتقارب مع تركيا. هذا السيناريو سوف يسبب ازدهارا لحلب وسوف يجنبها الكوارث، أما الانغماس في الصراعات السورية فهذا سوف يدمر حلب وفي النهاية لن تستفيد شيئا. أفضل سيناريو في هكذا حالة هو أن تعود حلب كمدينة نائية مهمشة في دولة مهلهلة تعيسة (وهذا هو السيناريو الذي كان سائدا طوال القرن العشرين)، أما سيناريو الانفتاح على تركيا فهو سوف يجعل حلب أهم مدينة في المنطقة وستصبح بوابة تركيا وأوروبا على العالم العربي. هناك فرق كبير بين السيناريوهين.
طبعا الأكراد سيسعون للالتحاق بكردستان العراقية، ولكنهم سوف يعانون مع تركيا التي سوف تتدخل عسكريا في الحسكة ضد مصلحتهم، وبالتالي أنا أتوقع لهم فترة من العنف والقتال ضد العرب والأتراك.
- إذا نجح النظام السوري في فرض الاستقرار الأمني مجددا فهناك حسابات أخرى، وطبعا أنا أفضل هذا السيناريو وحديثي عن التقسيم لا يعني أنني من أنصاره.
إذا نجح النظام في فرض الأمن فعندها المفترض هو أن تتدخل الصين وروسيا للاستثمار في البنية التحتية في سورية، والمفترض أيضا أن تكون سورية قد تأقلمت مع العقوبات ونجحت في إيجاد طرق جديدة للتصدير والاستيراد.
هذا السيناريو ممكن نظريا لأن سورية تمتلك علاقات جيدة مع معظم دول آسيا. الدول التي تقع إلى الشرق من سورية هي على التوالي العراق وإيران وباكستان والهند والصين وكوريا الشمالية. هذه الدول هي كلها دول صديقة لسورية وبالتالي سورية تمتلك نظريا عمقا يمتد حتى المحيط الهادي.
أيضا هناك دول آسيا الوسطى وأوكرانيا وبيلاروسيا ودول أميركا الجنوبية.
هناك دول كثيرة في العالم مستعدة للتجارة مع سورية، ولكن المشكلة الآن هي في الأساس مشكلة مالية تتمثل في منع سورية من التعامل بالدولار واليورو. هذه المشكلة في رأيي لن تدوم طويلا لأن العملة الصينية سوف تصبح قريبا عملة دولية كالدولار واليورو.
بالنسبة للخطط السورية للاستفادة من موقع سورية الجغرافي فهي كلها أصبحت الآن معطلة وعديمة الجدوى. سورية كانت تراهن كثيرا على ازدياد إنتاج النفط العراقي لأنها كانت تطمح للاستفادة من عائدات تصدير النفط العراقي عبر أراضيها، ولكن أميركا قطعت الطريق على هذه الخطة حيث أنها فرضت حظرا غربيا على استيراد النفط من سورية، وبالتالي لم يعد من الممكن الآن لسورية أن تبيع النفط العراقي ولا أي نفط آخر (نفس الكلام ينطبق على الغاز الإيراني الذي كان من المنتظر أن يتم تصديره عبر سورية إلى أوروبا).
بالنسبة لموضوع الترانزيت فسورية كانت تخطط لبناء طرق جديدة لزيادة عبور الشاحنات عبر أراضيها، ولكن أميركا نجحت أيضا في قطع الطريق على هذه الخطة وهي تعمل الآن على خلق طرق نقل بديلة عبر العراق ومصر.
لا أريد أن أكرر ما قلته من قبل، ولكن ما حصل خلال العام الماضي هو أن أميركا باختصار جففت كل المنابع والموارد المالية لسورية، وهذا هو الهدف الأساسي أصلا من كل ما حدث.
النظام السوري متفائل جدا برفع العقوبات الأوروبية عن سورية وهو يعمل على هذا الأساس. أنا شخصيا أشك في هذا الكلام. النظام السوري يظن أن سبب العقوبات الأوروبية هو خلاف شخصي بينه وبين ساركوزي، وهذه نظرة سطحية. سبب العقوبات الأوربية على سورية هو رغبة الأوروبيين في حماية التوازن القائم بين سورية وإسرائيل. الخطط السورية التي كان الأسد يعمل عليها خلال السنوات الماضية كانت ستؤدي لنمو الاقتصاد السوري إلى 100 مليار دولار خلال خمس سوات، وهذا كان سيوفر لسورية أموالا كثيرة لتصنيع الصواريخ وشراء الأسلحة الروسية (وشراء التقنيات العسكرية المحظورة من كوريا الشمالية). هذا الأمر هو ما دفع الغربيين لتجفيف المنابع المالية السورية، وبالنسبة للعرب فهم أيضا لديهم مصلحة في منع سورية من محاربة إسرائيل.
مصر منذ معاهدة كامب دافيد في أواخر السبعينات تعتبر أن أي حرب ضد إسرائيل هي حرب عليها أيضا، ولهذا السبب هي ورطت سورية في حرب لبنان ثم ساهمت في تدمير العراق. مصر ببساطة ترى أن اندلاع حرب عربية-إسرائيلية جديدة سيكون كارثة عليها ولذلك هي تريد منع هذه الحرب بأي ثمن، ونفس الكلام ينطبق على دول الخليج بالطبع.
مصر الآن ليست مؤهلة لخوض حرب ضد إسرائيل لأن اقتصادها يعتمد بالكامل على الغرب، وهي تعتبر أن اندلاع أية حرب عربية-إسرائيلية سيحشرها في زاوية: إما ان تشارك في الحرب وتخسر اقتصادها، أو أن تبقى على الحياد وبالتالي تخسر هيبتها ومكانتها (وربما يسقط نظامها أيضا). هذا هو ما يجعل مصر تحاول دائما إضعاف الدول المعادية لإسرائيل (أولا سورية في السبعينات والثمانينات ثم العراق في التسعينات والآن مجددا سورية وإيران).
كل هذه الاعتبارات تجعلني واثقا من أن العقوبات لن ترفع عن سورية أبدا طالما أن سورية متمسكة بموقفها من إسرائيل. من الممكن نظريا أن يتم التوصل إلى صفقة سلام بين سورية وإسرائيل، ولكن من يستمع لكلام الإيرانيين وكلام حزب الله عن إسرائيل يدرك أن هذا سيناريو خيالي (والغربيون باتوا يدركون ذلك أيضا). وبالتالي ليس هناك حل في الأفق ونحن متجهون إلى صراع طويل الأمد بين المعسكر السوري-الإيراني المدعوم آسيويا وبين المعسكر الإسرائيلي-الغربي-العربي.
إذا حصل تغير مفاجئ في مصر (مثلا إلغاء معاهدة كامب دافيد) من الممكن أن تتغير الأمور، ولكنني شخصيا أستبعد أي شيء من ذلك. مصر لن تلغي معاهدة السلام مع إسرائيل وأقصى ما ستفعله هو تقليد تركيا، أي أنها قد تخفف علاقاتها مع إسرائيل ولكنها لن تسحب اعترافها بها.
المعسكر الغربي-العربي يتعامل على أساس أن إسرائيل هي أمر واقع لن يزول أبدا، والمعسكر السوري-الإيراني لديه نظرة مناقضة. هناك حاليا تلاقي مصالح بين العرب والغرب لحماية إسرائيل، وبالتالي نحن نتحدث عن تناقض استراتيجي والمسألة ليست مجرد خلاف شخصي بين الأسد وبعض الزعماء.
أنا هذا هو رأيي الذي كنت أقوله منذ بداية الأزمة، ولكن النظام السوري لديه رأي آخر وهو يتصرف على أساس أن الغربيين والعرب سيعودون للتصالح معه. أنا لا أرى أية مؤشرات تدل على أن الغربيين يفكرون بالتصالح مع النظام السوري. بالأمس الأوروبيون فرضوا عقوبات على البنك المركزي السوري، وهذا يعني أنهم قطعوا خط الرجعة مع سورية.
المفترض بسورية الآن أن تتصرف على أساس أن أوروبا غير موجودة على الخارطة، أما استمرار المراهنة على أوروبا فهو أمر غير واقعي. حتى لو سقط ساركوزي في الانتخابات فهذا لن يغير الموقف الأوروبي والعقوبات لن ترفع عن سورية أبدا قبل أن تعترف سورية بإسرائيل. أتمنى أن أكون مخطئا ولكن هذه هي قناعتي وأنا واثق من أن العقوبات التي فرضت على سورية لن ترفع أبدا إلا بعد أن يرفرف علم إسرائيل في دمشق، اللهم إلا إذا حدث شيء ما غير متوقع يقلب الموازين.
طبعا الكلام السابق كله مبني على فرضية أن ينجح النظام السوري في فرض الأمن، أما إذا فشل النظام في فرض الأمن فهذا يعني سيناريو التقسيم. في بداية الأزمة كنت أشك في التقسيم ولكن حاليا لا أظن أن هناك عاقلا يظن أن سورية ستعود كما كانت. هناك سيناريو وحيد فقط هو السيناريو اليوغوسلافي، وحتى المعارضة السورية صارت تتحدث عن هذا السيناريو بشكل صريح وتطالب بتطبيقه في سورية.
السيناريو اليوغوسلافي لا يمكن أن يتم بدون تدخل خارجي. إذا استمر العنف في سورية ففي النهاية ستقوم قوى خارجية بالتدخل لضرب الجيش السوري وسيتم إنشاء دويلات كما حصل في يوغوسلافيا. بعض الوهابيين الأغبياء يظنون أن أميركا لو تدخلت فإنها ستساعدهم على احتلال مناطق العلويين وغيرهم من الأقليات، وهذا طبعا سيناريو خيالي لأن أميركا (ومعها المجتمع الدولي) من المستحيل أن تسمح بدخول الوهابيين عنوة إلى مناطق الأقليات. ما سيحدث هو أن أميركا ستنشئ خطوط تماس بين المناطق المتحاربة على اعتبار أنها خطوط هدنة أو حدود مؤقتة وسيتم نشر قوات من الأمم المتحدة على تلك الحدود، وبعد ذلك ستبدأ مفاوضات حول مستقبل البلد، وطبعا نتيجة المفاوضات معروفة سلفا لأن هناك فئات معينة لن تقبل أبدا بإلقاء سلاحها والدخول في حكم الوهابيين.
هذا هو السيناريو اليوغوسلافي الذي تطالب المعارضة بتطبيقه في سورية. هذا السيناريو مرغوب لدى أميركا وإسرائيل والوهابيين وهو من الممكن أن يصبح حقيقة واقعة في سورية في حال فشل النظام السوري في فرض الأمن.
طبعا عند رسم الحدود بين المناطق المتحاربة سيبدأ بازار التفاوض الدولي والإقليمي، وستسعى كل جهة لأن يكون لها حصة. بالنسبة لإيران وروسيا فهما قد تقبلان بالساحل، وتركيا ستطالب بالشمال، والسعودية تريد دير الزور لأنها تريد جعل هذه المنطقة منطلقا لتقسيم العراق، وإسرائيل ستطالب بمنطقة عازلة ربما يتم تفصيلها بحيث تحوي نسبة كبيرة من الدروز، وهكذا.

View Original