عبد الحميد عبود
————–
كفرنبل
فكرت وأنا على الموطور، هل حقا سأقابل هذا المجهول الاستثنائي الذي صنع الثورة السورية باليافطات مثلما صنعها سميح شقير بالأغنية، مثلما صنعها أطفال درعا بكتاباتهم على الجدران، دائما قبل ان ألتقى شخصا لا أعرفه أتخيل هيئته وتضاريسه، أحاول (في رأسي) ان أرسم له بورتريه تقريبية، كيف يا ترى يكون شكله؟
بين كنصفرة وكفرنبل (تلفظ كِفْرَنْبِلْ) لا يمكن ان تفكر كثيرا فالمسافة قصيرة، من بعيد تبدو المدينة كأنها عاصمة قياسا بالعزبة التي أتيت منها، لكنها تأخذ حجمها الحقيقي وأنت تقترب منها، أقل من مدينة وأكثر من قرية، سالم لف بي في وسط البلدة، يا الله كم يوجد دمار! خذها قاعدة، كل مدينة مُدَمَّرة هي مدينة مُحَرَّرة (غالبا ما يتركز الدمار في الحي الذي يأوي المقار الأمنية)، سالم سأل كثيرا عن رائد، أين رائد مسؤول المكتب الاعلامي؟ نزلنا إلى اطراف البلدة التحتانية، في مقر كتيبة “فرسان الحق”, قيل لي يمكنك ان تقابل المقدم فارس بيوش، لكني زهفت من القادة العسكريين، أريد مقابلة الوجه الآخر للثورة، نبض الثورة، ضميرها، صوتها
مشينا خطوتين إلى بيت مجاور، هاهو رائد، بتاع اليافطات ما غيره، عاد لتوه من تركيا حيث كان يشارك في دورة اعلامية، تأملته بفضول أركيولوجي، لا يقود كتيبة ولا يتمنطق مسدسا ولا كلبجات، ولا يلبس الكاكي المرقط، لو كان كاريكاتوريست لقلت ناجي العلي، لو كان شاعرا لقلت بيرم التونسي، لو كان صحابيا لقلت أبا ذر الغفاري، لكنه هو نفسه رائد الفارس، بشحمه ولحمه وأنفه، لا أقول هذا عبثا او خبثا بل من باب “لو كان أنف كليوباترا أطول قليلا لتغير وجه العالم”، أجلْ، لو كان أنف رائد أصغر قليلا لتغير تاريخ الثورة السورية، لا بد من ربط الخَلقي والخُلقي، فهو ليس رائدا الا لأنه يمتاز بهذا الأنف، انه سيرانو نفسه الذي يكتب أشعار الحب الجميلة لمدموزيل ثورة، انه جيش في رجل، انه رجل في وجه، انه وجه في أنف، انه أنف في أنَفَة، قد يغيظكم هذا التفسير او لا يفسر لكم شيئا، بيد ان هذا الأنف الكبير هو سر هذا الرجل الكبير الذي هو سر كفرنبل التي هي سر الثورة السورية
أخذت حريتي معه من الوهلة الاولى، كأني أعرفه من زمان، فأنا أيضاً أنفي علامة فارقة وأرى العالم من خلال جسدي (وهل الثورة إلا رغبة لاشعورية لإعادة صياغة الجسد)، رائد ينتمي إلى الرواد، القلة الفاعلة التي تحرض الأكثرية السالبة، الثورة شعبية لكن من فجرها هم حفنة مغامرين هو أولهم، انه أكثر من ثورة، هو ثورة مضادة على الثورة، فيه قليل من غاندي وابراهيم روغوفا (مع حفظ الفوارق), كان يريدها سلمية ولكن بما انها تعسكرت فلا بد من التعاطي معها واقعيا، في حضرة هذا المحرض الجماهيري تفهم أن الثورة السورية ليست فقط طاخ طاخ بووم، هي أيضاً فكرة، صرخة، روح، مظاهرة، يافطة، دعابة، السوري دمه خفيف (كفرنبل تبعد فشختين عن حمص), رائد فكرة جديدة عن سورية، يفكر ولا يقبل الأفكار الجاهزة، يؤمن بالله ولا يتكلم بخلفية دينية، يحب وطنه ولا يزاود في بازار الوطنجية، يطعّم كلامه بشتائم سوقية دون ان يكون سوقيا، من بين كل الذين قابلتهم هو وحده يدين الأسد مع صدام، وهو وحده يحيي صمود الحماصنة مع الأكراد، مناضل مدجج بوعي رقمي، يملك كاميره وحاسوبين محمولين وهاتفا جوالا وسكايب، في زمن المظاهرات المليونية ،كيف تطلع على قناة الجزيرة بمظاهرة من 30 متظاهرا إذا لم تكن مظاهرة نوعية بشعارات ويافظات لافتة للنظر، للذكاء، للحس!
رائد هو أيضاً الثبات في وجه الجيش النظامي، بقي وحده مع سبع متظاهرين “يا الله ما ظل لنا غيرك يا الله”, تحولت على لسانه “يا الله ما ظل غيرنا”، انه حالة خاصة، رجل بسيط لدرجة السذاجة او الذكاء، “مافي أكوس (أفضل) من بشار بالعالم، غَلِطْنا بهالثورة”, هذا الكلام الشفوي يستحق ان يكون يافطة جديدة، هكذا يعبر عن نقمته ازاء السلبيات، يجب ان نثور لأن الثورة لا تفيد في شيء، الثورة كانت نقية في بواكيرها ثم نخرها السوس، المال، المدة المديدة، الانتهازيون، بين أيدي الثوار كثير مما يمكن التباهي به، هواتف جوالة، أسلحة، دبابات، سيارات، مال، تبرعات، عقارات، آثار غالية الثمن، تغيرت المعطيات، الفساد أفسد النفوس الضعيفة، الغنائم غنمت الثوار، رائد هو حاصل جمع وطرح وضرب كل الثوار، شخص هادئ بأعماق صاخبة، توليفة عجيبة من جد وهزل، لكن جده جد وهزله هزل، باختصار هو كل هذه اليافطات
كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا
سحب المدن من مناطق الجيش
الحمد لله هالمرة صواريخ مش براميل
إذا خُيّرنا بين بشار والدمار فإننا نختار الدمار
حمص العدية أعجوبة العالم الثامنة
فقط في سوريا طائرات الميغ سلاح خفيف مضاد للأفراد
يا فجر كفرنبل الطويلا! عجِّل قليلا، عجل لأعرف جيدا ان كنتُ حيا ام قتيلا
عذرا يا حبيبتي لقد ذكرت اسمك في التحقيق
سقوط الأسد مسألة وقت، انتشار القاعدة، فناء الشعب, هو أيضاًت مسألة وقت
القلق الدولي وصرمايتنا سوا!!!
إلى وليد المعلم: توقف عن التدخل في الشؤون الداخلية الإيرانية
دمعتنا ممزوجة بالألم, ومن قلب الألم سينفجر الاعصار
بدماء أطفال درعا أزهر أقحوان كفرنبل
إلى السيد عنان …. فيك وفي إيران
أوقفوا التطهير العرقي في بورما
في ظل تخاذل العالم سيتحول السوريون جميعا إلى إرهابيين
اسطنبول خط أحمر، كفرنبل لن تقف مكتوفة الأيدي أمام اي اعتداء على تركيا
الأسد يفجر والقاعدة تتنبنى
أين أنتم يا أحفاد سايكس وبيكو؟ لقد مل منا الموت
تسعيرة تأجير عدة لتشكيل لواء 25000 ل س, تسعيرة تأجير عدة لتشكيل كتيبة 10000 ل س, تسعيرة تأجير عدة لتشكيل سرية 5000 ل س
إلى السيدة الأولى نعدك بأن تكوني الأرملة الأخيرة
اردوغان: كلمات ليست كالكلمات
اننا نشجب اكتفاء العالم بشجب المجزرة
في سوريا يعيش الموت ويموت الضمير العالمي
قريبا ستنضم الجزيرة إلى باقة روتانا
من قُتِل في ميدان التحرير فهو شهيد ومن قتل في سوريا فهو رقم
نطالب بضربنا بقنبلة نووية كي نفنا نحن وآل الأسد
ليقف العالم كله ضدنا لن نهتم ما دامت حمص في صفنا
نطالب بغزو فضائي لانقاذنا
عاجل ا ف ب: سيطرت كتيبة شارل ديغول بقيادة العميد مناف طلاس على شارع الشانزيليزيه
برصاصة أرسلت أطفالنا إلى الجنة بأحذيتنا سنركلك إلى الجحيم …الخ
حتى أكون منصفا فلا يجب نسبة هذا المجهود إلى رائد وحده بل إلى كفرنبل كلها، الأفكار له والتخطيط لياسر الموسى، الرسومات لأحمد جلل، والسواعد التي تحملها هي سواعد المتظاهرين (لا يكفي ان تخترع شعارات بل يجب ان ترفعها علنا وهذه مخاطرة)
ركبت ورائد السيارة إلى معرة النعمان، (انها قريبة قد تكون ضاحية كفرنبل او بالعكس), زرنا قبر أبي العلاء في المركز الثقافي استوقفتني عبارة “هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد”، تدرجنا إلى خان مراد باشا الذي صار متحف الفسيفساء، دوشكا الثوار متمترسة بين تحف المتحف، بين العقود والأعمدة الرومانية، الآثار جلها إغريقة وثمة شمعدان يهودي، منمنمات وجداريات ونواويس حجرية، ثمة حاجز للجيش النظامي غير بعيد، تريثنا في السوق، قلت لرائد اني أحب الرمان فاشترى كيسا من عشرين كيلو، هذا الرجل متطرف حتى في كرمه، حين هممت ان أدفع الثمن غضب علي، دعينا للطعام عند أولاد عمه، تعجبت، هذه أول مرة أرى أربع أخوة متفقين، الوليمة أدلبية جدن جدن، تخيلوا، رؤوس غنم (قشة)، خجلت من نفسي، فقد غلبوا انفسهم علشاني واستنكفت عن الاكل, تظاهرت بالأكل, اكتفيت بالمرق، اضطريت ان أزعم أني نباتي، نكتوا علي، كيف تكون نباتيا في ادلب بلد اللحوم وخروف العواس
الكلام دار حول السلبيات، الثورة جميلة في الكتب والأشعار، حين تطول تصبح محبِطة، خاصة حين يخسر المواطن كل ما يملك وينام تحت شجرة زيتون هو وأطفاله، ويكتفي بالخبز والزيت والزعتر، ان كانت الجزائر بلد المليون شهيد وموريتانيا بلد المليون شاعر فسوريا بلد المليون مشكلة، الشواذ كثير، ثمة ثوار نخب اول يركبون سيارات رباعية الدفع, وثمة من يركب صيني او كوري، سوريا تتحول إلى يمن جديد حيث ينتشر السلاح العشوائي، انتعشت تيار الخدماتية الطفيلية ومافيات الاغاثة والتشليح وحتى التشبيح، كلما طالت الثورة يزداد الامتعاض من الثورة، هذه قاعدة، والناس خايفة من المجهول، الله يسامح البوعزيزي ورطنا كلنا بمحرقته، كان لازم من البداية يرضوه ويشتروا له عربة خضار جديدة بدل توصيلنا إلى هنا، هذا هو الحكي المضبوط
نظر رائد إلى الساعة واستأذن “اسمحولنا يا أولاد العم فنحن مدعووين إلى العشاء في مكان آخر”. في بيت سليمان كانت وليمة وسط الزواتين، كانت سهرة رائعة، مشاوي وسمك على الجمر وعلى ايقاع القذائف، قال سليمان ان أطفاله صاروا يميزون صوت الطائرة السفرية من الحربية، شعرت بالبرد فأعطاني الفروة تدثرت بها ونمت وأنا أحدق بالنجوم
صباح كفرنبل هادئ ومسائها رائع، أنا أوّل من يفيق وآخر من ينام، بياع السندويش رفض ان يقبض ثمن السندويشة، يمكنك ان تقضي العمر كله في سوريا دون ان تنفق قرشا، انت ضيف والضيف مقدس، أحد الأشقياء أذاع من مذياع الجامع أنّ القرية ستتعرض للقصف وذلك حتى ينزح السكان ويمارس مهنة السطو بهدوء، تحدثت بالسكايب مع لور، أكلنا لحم بعجين، حسن مسكي (مساعد رائد) اشتغل بالهوائي حتى منتصف الليل ثم صفن بعمق، لا بد انه يفكر عند أي من نسائه الاثنتين سيقضي ليلته، المقدم فارس بيوش (أبو مجد) أسس دولة داخل كفرنبل، مجالس تسيير ذاتي ومخفر وحتى محكمة، بعض المقاتلين تذمروا، ليه نضال حاج علي عندة رشاش ثقيل ونحن رشاشنا متوسط (ب ك س)، السلاح زينة الرجال، وقوة كل كتيبة تقاس بعتادها وعديدها، المقدم قرر بيع حديد وأخشاب المدرسة لشراء رشاش 23، أحدهم احتج عليه, من أنت لتتصرف وحدك، حضرتك انشقيت من يومين ونحن هنا من سنين، أبو مجد لم يغضب فهو يعرف ان هذه حقيقة، تكلم عن ارسال مقاتلين إلى حلب، أظهر لي على الحاسوب تجارب لصواريخ صناعة محلية إدلبية، لكنه ضحك “المشكلة اننا نعرف من أين ينطلق الصاروخ ولا نعرف أين يصل”
سجلت بعض ما سمعته في الكراس: النظام قطع الخميرة عن الأفران وقطع رواتب عمال الكهرباء، الرئيس أصدر عفوا، مذنب يعفو عن أبرياء، الثورة يلزمها مئة صاروخ “ستنغر” لتقلب الوضع، العرعور فقد أعصابه على الشاشة: هذه المرة ان لم يسقط النظام فالله حتما علوي، يقال ان أهل جسر الشغور يسنون السكاكين من الآن لجز الرقاب، وتيرة الانشقاق تتسارع، كنا نعد من انشق عن النظام والآن نعد من بقي مع النظام، يجب تأمين الافران بأسرع وقت، لا تبيعوا اكثر من ربطة خبز للعائلة الواحدة، لا تعاملوا الناس بالواسطة، كله لازم يقف على الدور، حل مشاكل المواطنين جهاد آخر…
تظاهرتْ كفرنبل في جمعة (نريد سلاحا لا تصريحات)، انتظرنا انا ورائد في ساحة الجامع بانتظار خروج المصلين الذين سيصبحوا متظاهرين، قلت له: “حجة أدونيس في التحفظ على الثورة هي إنها تخرج من الجوامع”، فقال: “ومن أين يريدها ان تخرج، من فنادق الخمس نجوم؟”. المظاهرة هنا لها نكهة خاصة، كفرنبل تتكلم كأنها دولة مستقلة ذات سيادة ورائد وزير إعلامها، يمكن ان تتدخل مالطا لا تركيا، كفرنبل المحررة تدين بشدة الاعتداء السوري على تركيا وتطالب الطرفين بضبط النفس، شوية مزاح جدي من بنات أفكار رائد
كان رشاش الدوشكا يتقدمنا لصد الطائرات المغيرة، الرامي منتصب، قدماه على شكل ثمانية والإصبع على الزناد والعين على السماء، أخبرني رائد انه توسط لمصور فوتوغرافي اسباني فباع الكليشيه الواحد لقناة الجزيرة ب 200 دولار، ضربت 500 صورة × 200 فخرج معي مبلغ 100000 دولار، بينغو! شيء مربح ان تكون إسبانيا وسط العربان، أخبرته اني كتبت أربع مقالات ولم تنشرها الجرائد العربية، فقال ولم يكن يمزح “ترجمها للانكليزية وابعتها إلى الديلي تلغراف”, شعرت بالخجل من عروبتي وعربيتي، لماذا أحترم لغتي الأم أكثر من اللازم؟ أنا أتكلم ست لغات ولا أبكي الا بالعربية، لم يرق كلامي لرائد فالنظام البعثي دافع عن اللغة العربية حتى نفّر الناس منها، النظام حوّل لغة الضاد إلى لغة الضد
انا هنا على مرمى حجر من الحدود اللبنانية، عائلتي هناك، مستنقع الوراثة الدودي، لكني لم أشتاق لهم، لن يرحبوا بي بدون فلوس (فلوسي بقيت امانة مع محمود ابو زيد في اعزاز), لا أحن إلى أمي ولا إلى قبر أمي ولا إلى إخوتي، أرحل هربا منهم فكيف أرحل إليهم
في المسافة من منبج إلى حلب إلى المعرة صادفتُ ثلاث شعراء كبار، أبا فراس الحمداني والمتنبي والمعري، لكن هناك أدباء من عيار أصغر مثل عبد العزيز الموسى، انه أفضل ممثل لشعراء الأطراف والقرى النائية، زرته في بيته، أحسست اني مع رجل يشبهني، ابن كار، غرفته تشبه غرفتي، الفارق الوحيد هو انه يقرفص بخفة يوغي، أهداني روايته التي توجت بجائزة نجيب محفوظ “عائلة الحاج مبارك”، حفيده يناديه بابا بعد موت ابنه بالغارة (الشباب يموتون ويتركون أبنائهم وزوجاتهم وديونهم لابائهم), دار الحديث حول الحرب والأدب، حدثني عن تلك الأيّام القديمة المباركة قبل ان يغتصب البعثيون اسم الشعب، رغم رياح الحرية أعرب عن تشاؤمه، لسنا حاملين لجرثومة الإنسانية حتى الآن، الكذب، الخوف، الرشوة، الوشاية, كلها فينا، ع ع كاتب مشاكس وعصي على التعليب، عنده أربع روايات لم تُنشر، كان محاصرا من الرقيب البعثي والآن يحاصره الرقيب الوهابي، الفقهاء يتسللون إلى عقولنا بالمكر والغباء، فعدم أخذ المعنى بحرفيته عند هؤلاء الفيلولوجيين هو الشرط الأول للتمكن من اللغة والسيطرة على عقول العوام. ع ع يحب فرنسا، في 26 سنة انتداب لم تقتل الا بضع أناس (كذا) حسناتها تفوق سيئاتها بكثير، عدد جمائلها، عمّرتْ السراي، أسستْ الجمهورية السورية، عملت مؤسسات وسكة حديد ودوائر حكومية، “ولكن ايش عملت بالجزائر؟” سألته, فأجاب: “يستحقون، الجزائريه وحوش“, ولا غرو فقد كان مدرِّس لغة عربية في وهران، ويحتفظ بذكريات سيئة جدا، ليس له صديق واحد هناك، ع ع ليس من الذين رضعوا حليب فرنسا لكنه يتكلم من حرقة قلبه، ابنه محمد سقط بالغارة الجوية قبل عشرين يوما، تذكر كيف عامله الإسرائيليون بإنسانية في حرب الجولان، زرته مرتين, في الزيارة الثانية كان يأرشف محتويات بقالة ابنه الفقيد ليبيعها
حين يمر الوقت بسرعة فأنت في المكان الصح، تعودت على البلد، الإنسان لا يلد سورياً بل يصير سوريا، كان يمكن ان أبقى في كفرنبل شهرا لكني لم أحتمل أكثر من أسبوع، البراغيث أهلكتني، صوتها مرعب أكثر من طائرة الميغ، تعذيبها أعتى من تعذيب المخابرات السورية، الأرنب البري يحن دائما إلى براريه الشاسعة، أنا ابن البراري وربيبها، لا بد ان أمي توحمت على شيء من ابن بطوطة وهي حاملة بي
أنا الآن في أحسن حالاتي، أحب ساعة الأصيل، ونور الشمس المنسكب يرسم من الغيوم قصرا من بلور، رائد وضع أغنية WHEN THE RAIN DOESNT COMEا لتي تتكلم عن بنت تبيع جسدها لتطعم أهلها بسبب الجفاف، ساق السيارة بسرعة مثل محمود أبو زيد، هؤلاء الاعلاميون يظنون أنهم أبطال فورمولا واحد! الطريق من كفرنبل إلى أطمة سالكة وآمنة، التغريبة صارت تشريقة، الطرقات ليست مستقيمة ولكنها دائرية، وأسوأ المتاهات هو الخط المستقيم، لحسن الحظ لم يرجع رائد من نفس طريق الذهاب بل استعار طريقا غيرها، هذا ما أعطاني الانطباع اني أمضي إلى مكان مجهول, الرحيل حلم يقظة، سفينة بيضاء تحملني إلى بلاد بعيدة, الأبقار نظرت إلينا كما تنظر إلى قطار سائر، تراخيت كأني فوق بساط أحمدي، انسجمت مع السيارة كأني في فيلم رود موفي, في الطريق ظهرت قباب مزارات، قال رائد انه يتفق مع السلفية بهدم أضرحة الأولياء، حكى لي قصة الجحش الذي اندفن وبنوا قبة على قبره، اكتشفت انه مودرن ومحافظ في آن، يؤمن بحقوق الإنسان ويؤمن بتعدد الزيجات، انها الحرية السورية
توقفنا في “بنش”, لا دمار فيها، هذه المدينة يسمونها القرداحة الثانية (مؤيدة), اشترى رائد الفستق الحلبي والسندويش ولبن عيران والمرطبات، أكملنا الطريق، حين أغامر أعيش الحياة حياتين، أنا الحياة الحقيقة والطريق، السفر قدري ندامتي، لا أستطيع ان أغرز جذوري في مكان واحد، أريد السماءَ والريح والعاصفة، أريد ان أكون حرا حتى لو كان الجميع عبيدا، الحياة في المكان الآخر، دخنت سيجارة ( لم أضعها بفمي من أربع أيام), طمئنني رائد اننا سنصل بعد ربع ساعة فافترسني قلق الوصول، أنا مش مستعجل بالمرة، حبذا لو ان الرحلة لا تنتهي أبدا، الطريق هي الهدف وهي أجمل من المقصد، أنا من سلالة الرحالة الموشكين على الإنقراض، كان يجب ان أولد في عصر الحنطور، فالعصور الحديثة تسمح بالسفر لا بالرحيل، وسائل المواصلات شوهت معنى الرحلة، بساعتين يمكن العبور من مدينة لمدينة، حلّ محلّ الرحالة سيّاح يعبرون الأمكنة بدل استكشافها، الرحالة كائن عوليسي لا يصل أبداً، ايثاقا مدينة وهمية جدا، ان تكون على سفر يعني أنك دائماً على شوق، في لهفة من لم يصلْ، الشوق الحقيقي ينبغي ألا ينتهي بالوصل، الطريق دائما، الطريق أبداً، أريد ان تكون نهاية الرحلة في قبر مجهول في برية مجهولة (غالبية الرحالة لا يعرف مكان موتهم)، لكن لكل بداية نهاية
اقتربنا من باب الهوى، ظهر حاجز للجيش الحر، كل الأشياء الجميلة تمر خاطفة كما في حلم ثم يأتي الواقع القذر (أفظع الأحلام هو الحلم الجميل حين يصحو الحالم وتتبخر كل مجوهراته الخرافية), اطمه شوارع موحلة، تصد الغريب، ذهبت إلى المدرسة لكن الحراس لم يسمحوا لي بالدخول بحجة الاحتياطات الأمنية، القادة العسكريون الكبار متمركزون فيها، أوّل مكان ينقفل الباب بوجهي في سوريا، طيب وين أروح؟ عرجت على المخفر بتاع الخال ظاظا في أعالي القرية فقيل لي نفس الكلام، سوريا مضيافة وأطمة هي الشواذ الذي يؤكد القاعدة، أطمه لا تبالي بالغريب لكثرة الغرباء فيها، أن ترحل يعني أن تعيش بمعادلة قلقة، لا تدري أين تبيت، ولا أين تصبح، طرقت على باب بيت أبو أرتين في ساعة متأخرة فرحب بي “البيت بيتك”, مع عهد الثورة (السائد) صار يأوي الرايح والجاي، أيام النظام (البائد) كان من المستحيل ان يفتح بابه لغريب خوفا من المخابرات، حتى الغريب نفسه لم يكن بوسعه ان يطرق أي باب, قبل تسع سنوات زرت الشام لم يكن ممكنا ان أنام هنا وهناك، حجزت لمدة شهر في فندق رضا بساحة المرجة (المرة الوحيدة في حياتي حيث أنزل بفندق)، يرجع مرجوعنا، أبو أرتين عشاني وقهواني وفرط لي الرمان، فرش لي في غرفة الضيوف مع صهره علاء الذي كان محنطا أمام التلفاز، المروحة السقفية كانت تصدر ضجيجا قويا، في المنام رأيت شوارع اطمه تفوع بالدبابير، البلابل أغربة سرعان ما انقلبت إلى دبابير، دبابير تغرز زنابيرها في عيني وكبدي، الخنازير تحولت إلى أكاديش ثم إلى دبابير، البشر تتحجّر في تماثيل ثم في دبابير، من ينزع من قلبي المسامير؟ من ينش عن وجهي الدبابير؟
أصبح الصباح فأنقذني من كوابيسي السحيقة، ظهرت أشجار الرمان وكان بوسعي ان أقطف رمانة من النافذة، استهجنت وجود زهور بلاستيكية في الصالون، في الريف موطن الطبيعة والازهار الحية، قعدنا تحت العريشة نثرثر، أبو أرتين مش أرمني وما في عنده أرتين، عنده أربع بنات من كثر حبه لهن يخاطبهن بصيغة المذكر، عمل لي قهوة على الحطب، قال لا يوجد عنده ثمن جرة غاز، ركبنا التراكتور إلى السوق اشتريت له واحدة ب 1800 ليرة، قبض على أدسم قرقة في قن الدجاج وذبحها كرمالي، تحممت وحلقت ذقني، ليس رائد وحده بل اطمة كلها، الشعب السوري كله حر، حريته جامحة بحجم عبوديته، هذا زمن كل الأزمنة، نقد الذات وسب الآباء والأصنام، هكذا راحت أم أرتين التي مرضت طفلتها ولم تجد طبيبا تتحسر على أيّام بشار (قبل ان ينتهي وهذا جيد ومعناه انه انتهى بالفعل), للحرية وقع صاخب، الحرية تنز من السوري كما ينز الزيت من الزيتونة، كلمة “الشعب” لم تعد تعني “القطيع”، الشعب بلغ سنّ الرشد وتطهّر من شياطينه القديمة، الحرية شعور نوعيّ مختلف، الناس ينتقدون حتى الثورة التي حررتهم، من كان في عهد الأسد ويتجرأ على التحسر على حقبة ما قبل الأسد سيقعد على الخازوق في فرع المخابرات الجوية
سجلت في كراسي بعض الخواطر: .. بعد حلم الحرية تأتي طفرة الحرية ثم مرارة الحرية، لكن الحرية (السورية) على مرارتها أفضل من الأسد وعائلته وبعثه وشبيحته ومخابراته، مفيش ثورة مثالية، الثورة ثورة لأنها إنسانية وتحتمل عيوب الإنسان، الثورة بحاجة لوقت طويل حتى تنتصر على تناقضاتها، والله إذا ما صار فيها عوج لما عرفنا الشين من الزين، ثورة صعبة أحسن من ثورة سهلة، ما ينقي الثورة هي الأخطاء والتجاوزات، الثورة كالدراجة ان توقفت عجلاتها عن الدوران تسقط، والجريمة الكبرى هي التوقف بمنتصف الطريق
بدأت أحوص وأتحرقص، أنا كذلك أمقت التوقف بمنتصف الطريق، وأريد الخروج من قوقعة اطمة، المؤيد بالله الاعلامي وعدني بتوصيلي إلى الرقة وأخلف وعده، مصطفى الديري بتاع لواء الاحواز وعدني ان يأخذني معه لدير الزور وراح بدوني، كله كلام زور، حتى أرجع إلى اعزاز لازم أسجل نفسي في مخفر ظاظا، ربما تأتي سيارة للجيش الحر وتحملني، انتظرتُ ساعات عبثا، جاء سمسار تهريب اقترح توصيلي مقابل 4000 ل س لكني أملك نصفها فقط، التنقل بين المدن السورية أوديسا حقيقية، عنفص حماري، طريقي مسدود مسدود، رحتُ أبحث عن أي سيارة للجيش الحر قاصدة أي مكان آخر حتى حلب او كفرنبل نفسها، قال أبو أرتين “لو ما كان حزب “ب ك ك” ماسك الطريق كنت وصلتك من طريق عفرين”, جاء الفرج! قلت له “وصلني فورا”, قللي اوصلك إلى راس الضيعة وهناك دبّر حالك، هذا ما كان
هناك كان ثمة نازحون ومهربون وتجار مخدرات ينتظرون هبوط الليل لدخول تركيا بالتهريب (قرية صلوة الحدودية استفادت من الفوضى فرجعت لزراعة الحشيشة والأفيون), تحت الشمس الحارقة كانت الخراف تشكل حلقة لتتفيأ بظل بعضها، انتظرت عند مزار الشيخ أبو عبادة الكرسي، بالكاد انتظرت خمس دقائق، جاء أبو الحارث راكبا على موطور وعلى وجهه غلالة من الرهبوت، حياني بالسلام الاسلامي (قبلتين على الوجنتين وطبطبة على الكتفين), أردفني خلفه، انه يسكن جنديرس ويتكلم كرمنجي، كانت لحيته تتناثر خلف أذنيه، أوصلني لكاراج جندريس، السائق الكردي وشوشني: “لا تقول انك صحافي”, بربع ساعة بلغنا عفرين، بعشر دقائق بلغنا كفرجنة، جائت سيارة بيك أب وحملتني إلى اعزاز، رجعت إلى مربط خيلي بعد أسبوعين قضيتها في محافظة إدلب
يتبع….
الجزأ الخامس: إضغط هنا
View Original