تحدثت في المدونة كثيرا من قبل عن ضرورة إصلاح التعليم في سورية. قبل يومين بث التلفزيون السوري مقابلة مع وزير التعليم. أنا لم أشاهد من المقابلة سوى دقيقة واحدة، وفي هذه الدقيقة سمعته يتحدث عن الانتقال من التعليم إلى التعلم، وهذا نفس ما طالبت به في المدونة.
إذا كان النظام السوري جادا في تطبيق هذا الفكرة فهذا أمر جيد. الانتقال من التلقين إلى تعليم الطالب كيف يتعلم ذاتيا هو بالفعل مطلب جوهري ومهم جدا، ولكن تحقيق هذا المطلب لا يكون بالتنظير فقط وإنما لا بد من اتخاذ الكثير من الإصلاحات العملية لتحقيقه.
لا أريد أن أكرر ما ذكرته سابقا ولكنني سوف أكرر بعض النقاط الأساسية المهمة.
أولا سورية بلد فقير، ولا يوجد لدى الحكومة السورية مال كاف لتعليم كل الناس مجانا. تباهي النظام السوري بأنه يعلم كل الناس مجانا هو بالنسبة لي شيء يدعو للخزي والعار، لأن النظام يعترف بهذا الكلام بأن تعليمه رديء ومجرد ضحك على الذقون، وإلا لما كان استطاع تعليم كل الناس مجانا رغم أن المبلغ الإجمالي الذي ينفقه على التعليم هو مبلغ ضئيل.
ما تحتاجه سورية هو زيادة الإنفاق على التعليم، وهذا الأمر لا يمكن للحكومة أن تحققه لوحدها، خاصة بعد المؤامرة الأميركية الأخيرة التي دمرت الاقتصاد السوري. لا بد من إشراك القطاع الخاص في الإنفاق على التعليم، وهو ما بدأه النظام السوري بالفعل في السنوات الأخيرة.
القطاع التعليمي الخاص في سورية ما زال حديث العهد، ولذلك ربما هو ضعيف من حيث الكفاءة، ولكن المفترض به أن يتطور مستقبلا.
بالنسبة للدعم الحكومي للتعليم فلا بد من ترشيده بهدف زيادة الإنفاق على الطالب الواحد. إذا كان لديك 1000 ليرة ووزعتها على 1000 شخص فهذا يعني أنك أحرقتها ولم تستفد منها شيئا، لأن كل شخص حصل على ليرة واحدة فقط والليرة الواحدة لا تساوي شيئا ولو أنك لم توزع المبلغ لكان ذلك أفضل، أما إذا وزعت 1000 ليرة على شخصين فقط فهذا يعني حصول كل منهما على 500 ليرة، وهذا المبلغ رغم قلته إلا أنه أفضل من الليرة الواحدة.
نفس هذا المبدأ يجب تطبيقه على الدعم الحكومي للتعليم. الإنفاق العشوائي المفتوح لأموال التعليم هو أمر لا طائل منه. هو فقط هدر للمال، ومن الأفضل ألا ننفق شيئا على التعليم لأن ذلك سيكون أفضل من التعليم الوهمي. التعليم الحقيقي بحاجة لإنفاق جيد على الطالب الواحد.
الدعم الحكومي للطلاب يجب حصره بمن يحققون معيارين اثنين:
- الأكثر فقرا
- الأفضل أداء في الدراسة
النظام المتبع حاليا في سورية هو نظام قائم على خلفية اشتراكية فاسدة. هو يتعامل مع الطلاب بناء على مستواهم الدراسي فقط ولا يأخذ بعين الاعتبار مستوى دخلهم. ما يلي مثال يوضح فساد النظام المتبع حاليا في سورية:
طالبان تقدما للتعليم الجامعي الحكومي، أحدهما غني ومجموعه هو 200 علامة، والآخر فقير ومجموعه هو 199 علامة. النظام المتبع في سورية لا يعترف بمعيار مستوى الدخل، وبالتالي هو ينظر فقط إلى العلامة. بناء على ذلك الطالب الغني سوف تكون له الأولوية على الطالب الفقير في المفاضلة، رغم أن الفارق في العلامات بسيط، ورغم أن الطالب الفقير هو أحوج للدعم الحكومي من الطالب الغني، ولكن النظام المتبع في سورية بسبب خلفيته الاشتراكية المتوحشة لا يقيم اعتبارا لوضع الطالب الفقير ويتعامل معه ومع الطالب الغني بمعيار واحد.
الطالب الغني يمكنه أن يتعلم في جامعة خاصة أو خارج سورية، أما الطالب الفقير فيصعب عليه ذلك. لهذا السبب سياسة الدعم الحكومي المطبقة في سورية تظلم الفقراء لمصلحة الأغنياء، وهذا الأمر ليس محصورا بالتعليم فقط وإنما كل مناحي الحياة. هذه السياسة الاشتراكية المتوحشة تسببت طوال العقود الماضية في إلحاق ظلم فادح بالفقراء. النظام السوري كان يوزع المال العام على الفقراء والأغنياء بالتساوي وبدون مراعاة لفوارق الدخل. ليس هذا فقط بل هو كان في كثير من الحالات يعطي الأغنياء أكثر مما يعطي الفقراء، وهذه هي المهزلة الحقيقية.
في أقاصي سورية على الحدود التركية والعراقية هناك ناس بالكاد شموا رائحة الإنفاق الحكومي، رغم أنهم فقراء وبحاجة للإنفاق والتنمية، أما في مدينة دمشق حيث مستوى الدخل مرتفع فهناك إنفاق حكومي عال. هذا هو السبب الأساسي للثورة السورية التي اندلعت مؤخرا. ما تعيشه سورية الآن هو نهاية طبيعية لأزمة النظام الاشتراكي المتوحش المطبق في سورية منذ الستينات. هذا النظام خلق أزمة ظلت تتفاقم وكان من المحتم أنها ستنفجر يوما ما وتؤدي إلى ثورة، لأن الطبقات المسحوقة ما كانت لتسكت وهي لا بد أن تثور يوما ما وتطالب بحصتها من الثروة. هذه هي نظرية صراع الطبقات وثورة البروليتاريا التي يتحدث عنها الاشتراكيون، ولكنها في سورية انفجرت في وجوههم هم، لأن الاشتراكيين في سورية هم أجهل خلق الله على الإطلاق وهم ليسوا إلا مشعوذين لا علاقة لهم بالعلم والمنطق. الوهابيون والقاعديون لديهم منطق أكثر من منطق الاشتراكيين الذين يهيمنون على النظام السوري.
أهم خطوات الإصلاح في سورية هي بناء نظام متين للإحصاء والمسح الاجتماعي. هذا النظام يجب أن يميز الناس إلى طبقات حسب فوارق دخلهم، والإنفاق الحكومي يجب أن يكون مستندا إلى معطيات هذا النظام. الطبقات الأكثر فقرا يجب أن تحظى بالأولوية في الدعم، أما الأغنياء وميسورو الحال فهم يجب ألا يحصلوا على قرش واحد من الدعم الحكومي. هذه هي الاشتراكية الحقيقية، وليس اشتراكية الفاسدين واللصوص والمجرمين الذين يهيمنون على النظام السوري ويتشدقون بالاشتراكية ومقاومة الرأسمالية المتوحشة.
المطلوب في سورية هو تقليل الاستيعاب في الجامعات الحكومية. السياسة التي يطبقها النظام السوري حاليا في الجامعات الحكومية هي سياسة شعبوية. هو يريد إرضاء عامة الناس ولذلك يزيد من استيعاب الجامعات الحكومية رغم أن ذلك يضر التعليم ويضر الاقتصاد ومستقبل البلاد ويضر الفقراء قبل غيرهم.
الجامعات الحكومية في الحالة السليمة يجب أن تكون محصورة بالفقراء فقط، وهذا هو المطبق في أميركا مثلا. في أميركا الجامعات الحكومية يرتادها عادة الفقراء ومتوسطو الدخل، أما ميسورو الدخل فهم يرتادون الجامعات الخاصة. طبعا الفقراء يمكنهم أيضا ارتياد الجامعات الخاصة الراقية عن طريق منح دراسية وذلك إذا كان أداؤهم الدراسي متميزا.
الجامعات الأميركية هي الأفضل في العالم، وهذا الأمر ليس ناتجا من فراغ. هو بسبب كثرة الإنفاق على التعليم وتوجيه الإنفاق نحو الطلاب الأفضل أداء دراسيا. في سورية الإنفاق على التعليم هو قليل جدا وعشوائي.
زيادة استيعاب الجامعات الحكومية ليست خطأ بحد ذاتها. المهم هو أن تكون حصة الطالب الواحد من الإنفاق مرتفعة. إذا زدنا عدد الطلاب وفي نفس الوقت زدنا حصة الطالب الواحد من الإنفاق فهذا أمر ممتاز، ولكنني أشك في أن هذا هو ما يحصل في سورية. ما يحصل في سورية هو زيادة استيعاب الجامعات دون زيادة الإنفاق على الطالب الواحد، وبالتالي النتيجة تكون إما تدهور مستوى التعليم أو ثباته كما هو دون تحسن. هل بهذه الطريقة ستصبح سورية دولة متقدمة وتخرج من التخلف؟
أهم خطوة مطلوبة في سورية الآن هي توجيه الأغنياء وميسوري الدخل نحو القطاع التعليمي الخاص، وأما التعليم الحكومي المجاني فيجب حصره بالفقراء ومن لا يملكون كلفة التعليم الخاص. بهذه الطريقة القطاع التعليمي الخاص سينمو ويتطور، والنتيجة النهائية ستكون زيادة حجم الإنفاق الكلي على التعليم في سورية، وبالتالي التقليل من التخلف في سورية.
هذا الكلام هو بالمناسبة مطبق عمليا في معظم الدول العربية، بما في ذلك الدول المجاورة لسورية كلبنان والأردن. أنا هدفي من هذا الكلام هو فقط أن يصبح التعليم في سورية بمستوى التعليم في لبنان والأردن.
طبعا في سورية يقول كثير من الناس أن مستوى التعليم في الجامعات الخاصة رديء، ولذلك هم يفضلون التعلم في الجامعات الحكومية. الحل لهذه القضية هو أن تقوم الحكومة بفرض رسوم دراسية على الطلاب غير الفقراء الذين يرتادون الجامعات الحكومية. بهذه الطريقة يمكن للحكومة أيضا أن تزيد من مواردها وأن تزيد من إنفاقها الكلي على التعليم.
الخلاصة هي أن الحكومة يجب ألا تنفق قرشا واحدا على دعم التعليم إلا وفق معيارين: الدخل والأداء الدراسي. الطالب الغني والضعيف دراسيا يجب ألا يحصل على قرش واحد من الدولة، لأن هذا هدر جسيم للمال العام، أما الطالب الفقير والمتميز دراسيا فهو يجب أن يحصل على الحصة الأكبر من الدعم.
يجب تغيير طريقة التسجيل في الجامعات الحكومية. حاليا هناك مفاضلتان في الجامعات الحكومية، مفاضلة عامة ومفاضلة للتعليم الموازي. المشكلة الكبيرة في هذا النظام هي أن المفاضلة العامة مفتوحة لكل الناس ودون مراعاة لفوارق الدخل. هذا الأمر يجب إنهاؤه قريبا وحصر المفاضلة المجانية بالفقراء فقط. بعد أن تكتمل المسوحات الاجتماعية يجب أن يصبح التعليم الموازي (المدفوع الثمن) هو النظام الأساسي المتبع في الجامعات الحكومية، وأما التعليم المجاني فيجب حصره فقط بمن يثبت المسح الاجتماعي أنهم يستحقون الدعم الحكومي. بالنسبة لكلفة التعليم فهي يجب أن تكون متدرجة حسب مستوى دخل الطالب وحسب أدائه الدراسي، ومن الممكن أيضا أن تقوم الحكومة بإقراض الطالب كلفة دراسته الجامعية على أن يقوم بتسديد القرض بعد تخرجه.
هذه كلها مصادر هامة لتمويل التعليم مطبقة في كثير من الدول، ولكن في سورية هناك ترفع عن الاستفادة من هذه المصادر، لأن النظام السوري يعتقد ربما أن التعليم هو أمر غير مهم؟ سورية هي أحوج بلد في العالم لزيادة الإنفاق على التعليم، ولكن رغم ذلك نحن لا نرى أن هناك اهتماما بهذا الموضوع.
طبعا الكلام السابق يجب أيضا تطبيقه على التعليم الأساسي قبل المرحلة الجامعية. المدارس في سورية حالتها مزرية، والسبب الأساسي هو قلة التمويل. هناك مصادر كثيرة للتمويل. في الأعلى أنا ذكرت بعضها، ولو كانت الحكومة جادة في إيجاد مصادر أخرى للتمويل فهي تستطيع إيجاد الكثير من المصادر. المصيبة في سورية هي أن لا أحد يهتم بهذا الموضوع، رغم أنه أهم موضوع على الإطلاق. هو أهم من الصراع مع إسرائيل وأهم من الصراع مع أميركا والوهابيين والقاعدة. هو أهم من كل شيء. مستوى التعليم هو الذي يحدد مستوى الاقتصاد ومستوى التكنولوجيا ومستوى الثقافة ومستوى السياسة. كل شيء في الحياة يحدده مستوى التعليم.
السبب الأساسي لوجود التعصب الطائفي في سورية هو ضعف التعليم. لو كان هناك تعليم جيد لكانت نسبة المتعصبين والوهابيين أقل بكثير مما هي عليه الآن. النظام السوري أنفق أموالا خيالية لكي يقضي على الوهابيين بالسلاح والنار، ولو أنه أنفق ربع هذا المال على التعليم لكان قضى على الوهابيين في مهدهم وقبل أن يظهروا.
كفاءة التعليم
موضوع التمويل هو موضوع مهم لتحسين مستوى التعليم، ولكن طبعا التمويل لوحده لا يكفي. في السعودية ينفقون الكثير من المال على التعليم، ولكن رغم ذلك فإن المردود ضعيف نسبيا. لا بد من التركيز أيضا على محتوى التعليم وأسلوبه.
هناك نمطان من التعليم في العالم، النمط النظري التلقيني الذي كان يطبق قديما في حلقات الكتّاب، والنمط البحثي التجريبي الذي ابتدعه الأوروبيون قبل 300 سنة وأدى إلى نهضتهم الحالية.
المشكلة الكبيرة في سورية هي أن التعليم ما زال قائما على طريقة شيخ الكتاب. مفهوم التعليم في سورية هو الحفظ والتلقين والعلاك النظري. في سورية الناس عموما شاطرون جدا في التعليك النظري غير المسنود بدليل علمي، ولكن قليل من الناس هم من يفهمون فعلا أهمية الدليل العلمي. هذه القضية هي السبب الأساسي والجوهري للتخلف في سورية.
لو أخذنا الجهل والتخلف ووضعناهما في خلاط فإن العصارة الناتجة ستكون كلمة واحدة: الكلام النظري. يجب أن نخرج نهائيا من منطق العلاك النظري المصدي. هذا المنطق كان سائدا في أوروبا في القرون الوسطى ولم يعد أحد في العالم يعمل به الآن إلا الجهلة والمتخلفون.
السوريون ليسوا أغبياء ولكن أسلوب التعليم بصراحة هو ما يجعلهم يبدون أغبياء. أسلوب التعليم التلقيني يكبل الدماغ ويقيده ويمنعه من الرؤية خارج إطار الحواجز والقيود المحيطة به. نظام التعليم التلقيني في سورية يساهم في إنشاء الحواجز حول عقول الناس بدلا من أن يزيل هذه الحواجز.
الحواجز المحيطة بالعقول هي أساس التعصب. ما هو التعصب؟ التعصب هو جهل لا يستطيع صاحبه أن يخرج منه. هذا هو تعريف التعصب باختصار. نظام التعليم في سورية مصمم لخلق ناس متعصبين. هو يزرع في الطلاب نظريات وأفكار دوغمائية متحجرة غير قابلة للنقد والنقاش. المطلوب من الطالب فقط هو أن يسمّع النظريات التي حفظها. هذا هو جوهر نظام التعليم في سورية. هو لا يختلف شيئا عن حلقة الكتاب.
كثير من “العلمانيين” (الملحدين بالأحرى؟) يهاجمون على الدوام مناهج الدين في المدارس بوصفها سببا للتعصب. أنا أوافق على أن مناهج الدين هي سبب للتعصب، ولكنها ليست السبب الوحيد. كل المناهج في سورية هي سبب للتعصب. لا أدري لماذا التركيز على مناهج الدين دون غيرها؟ هل مناهج العلوم هي أفضل مثلا؟ ماذا عن منهاج الثقافة القومية الاشتراكية؟
أنا بصراحة أرى أن منهاج الدين في المدارس يساهم بنسبة 10% فقط في إنتاج التعصب. كل المناهج السورية هي مناهج نظرية تلقينية. لا يوجد سبب لاستهداف منهاج الدين دون غيره. من يخصصون منهاج الدين دون غيره بالاستهداف هم أنفسهم متعصبون ضد الدين، مع احترامي لهم.
منهاج الدين بحاجة لإصلاح كبقية المناهج، ولكن إصلاح منهاج الدين لوحده لا يكفي. بعض الكتاب طالبوا بإلغاء منهاج الدين كليا. هذا الأمر لو تم فهو لن ينقص التعصب. هو فقط سينقص معلومات الطلاب حول الدين، ومن الوارد أن تنشئ ردة فعل عكسية بسبب هذا القرار وأن يزداد التعصب في المجتمع بدل أن يقل.
مشكلة النظام السوري تاريخيا هي أنه لا يعرف معنى التعصب، ولهذا السبب هو فشل في مكافحته. البعثيون منذ أن وصلوا للسلطة في الستينات بدؤوا يتحرشون بالإسلاميين تحت شعار مكافحة الرجعية والتخلف، ولكن ما قاموا به لم يؤد إلى اختفاء الجهل والرجعية وإنما بالعكس أدى إلى زيادتهما.
مشكلة البعثيين هي أن كثيرا منهم متعصبون. البعثيون جاؤوا من المجتمع السوري ولم يأتوا من المريخ، وطباع البعثيين وعقليتهم هي نفس طباع وعقلية الإسلاميين. كل السوريين للأسف هم متعصبون سواء كانوا إسلاميين أم غير إسلاميين.
في سورية هناك فئة واسعة نسبيا من الناس تطلق على نفسها مسمى “العلمانيين”. هذا المصطلح في سورية هو مصطلح فضفاض جدا، والمؤسف هو أن الملحدين المتعصبين في سورية عادة ما يعرفون عن أنفسهم بأنهم “علمانيون”، مما يسيء إلى مصطلح العلمانية ويشوهه.
شخص كنبيل فياض مثلا يظهر دائما على وسائل الإعلام ويعرف عن نفسه بأنه “علماني”، وهو يتحدث باسم “العلمانيين”. نبيل فياض هو فعلا علماني، ولكنه ليس مجرد علماني. هو ملحد متعصب، وهو ربما يستحق الوصف بأنه حاقد. هو يعتبر نفسه باحثا علميا، ولكن كتاباته التي اطلعت عليها لم تبد لي كأبحاث علمية. هو يهاجم الإسلام بتجن شديد وبشتائم وألفاظ نابية. أنا لم أقرأ أي كتاب له ولكنني قرأت مقتطفات صغيرة من بعض كتاباته. عند قراءتها شعرت بأنه شخص متجن حاقد لا علاقة له بالعلم والبحث العلمي.
أنا بالمناسبة قرأت بعض كتابات المستشرقين حول الإسلام وتاريخه، وبالتالي تقييمي لكتابات نبيل فياض ليس نابعا من فراغ.
كلمة “ملحد” في اللغة العربية لها معنى واسع، كما يظهر مثلا في الكلام التالي من لسان العرب:
قال أَبو عبيدة: لحَدْت له وأَلحَدْتُ له ولَحَدَ إِلى الشيء يَلْحَدُ والتَحَدَ: مال. ولحَدَ في الدِّينِ يَلْحَدُ وأَلحَدَ: مالَ وعدَل، وقيل: لَحَدَ مالَ وجارَ. قال ابن السكيت: المُلْحِدُ العادِلُ عن الحق المُدْخِلُ فيه ما ليس فيه، يقال قد أَلحَدَ في الدين ولحَدَ أَي حاد عنه، وقرئ: لسان الذي يَلْحَدون إِليه، والتَحَدَ مثله… ومعنى الإِلحاد في اللغة المَيْلُ عن القصْد. ولَحَدَ عليَّ في شهادته يَلْحَدُ لَحْداً: أَثِمَ. ولحَدَ إِليه بلسانه: مال. قال الأَزهري في قوله تعالى: لسان الذين يلحدون إِليه أَعجمي وهذا لسان عربي مبين؛ قال الفراء: قرئ يَلْحَدون فمن قرأَ يَلْحَدون أَراد يَمِيلُون إِليه، ويُلْحِدون يَعْتَرِضون. قال وقوله: ومن يُرِدْ فيه بِإِلحاد بظلم أَي باعتراض. وقال الزجاج: ومن يرد فيه بإِلحادٍ؛ قيل: الإِلحادُ فيه الشك في الله، وقيل: كلُّ ظالم فيه مُلْحِدٌ. وفي الحديث: احتكارُ الطعام في الحرم إِلحادٌ فيه أَي ظُلْم وعُدْوان. وأَصل الإِلحادِ: المَيْلُ والعُدول عن الشيء. وفي حديث طَهْفَةَ: لا تُلْطِطْ في الزكاةِ ولا تُلْحِدُ في الحياةِ أَي لا يَجْري منكم مَيْلٌ عن الحق ما دمتم أَحياء
كلمة ملحد لها معنى واسع، ولكن في اللغة الشعبية هذه الكلمة تستخدم كترجمة لمصطلح atheist الأوروبي. مصطلح atheist يترجم أحيانا إلى “لاديني”. هذه الترجمة خاطئة حتما. كلمة atheist لا تتعلق بالدين وإنما بمفهوم “الله” تحديدا. كلمة atheos في اليونانية تعني من لا إله له. مصطلح atheist لا يعني إنكار الدين وإنما إنكار الله. هناك فرق كبير بين الدين والله. الدين هو مفهوم أوسع من مفهوم الله أو الآلهة، وهناك شعوب توصف في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) بأنها atheist رغم أنها تمتلك دينا. لا يوجد شعب في العالم ليس له دين، ولكن هناك شعوب ليس لها إله. بالتالي الدين لا يساوي الإله، ومصطلح atheist لا يعني “لاديني”. هذا المصطلح يعني تحديدا “لا إلهي”. اللاحقة الأوروبية ist- ليس لها ترجمة معتمدة في اللغة العربية. من الممكن مثلا أن نترجمها إلى ياء النسبة، وعندها تكون ترجمة atheist هي “لا إلهَوَي”. أنا في هذا المقال سوف أترجم اللاحقة ist- إلى الألف الممدودة مع ياء النسبة، وبالتالي ترجمة كلمة atheist هي “لا إلهائي”. هذه الترجمة هي بدعة من عندي وهي ستكون اصطلاحا بيني وبين قراء هذه المدونة.
اللاإلهائي هو من لا يعتقد بوجود الله. هذا المصطلح يستخدم عادة في مجالين، المجال الأول هو الفلسفة (عند البحث في حقيقة العالم، أو ما يسمى بالميتافيزيقيا metaphysics) والمجال الثاني هو الأنثروبولوجيا عند وصف معتقدات البشر الدينية. الباحثون يميزون بين نوعين من اللاإلهائية، النوع الأول يطلقون عليه “اللاإلهائية السلبية”، وهم يعرفون هذا المصطلح بأنه يعني “غياب الاعتقاد بوجود الله”. أما “اللاإلهائية الإيجابية” فهم يعرفونها بأنها تعني “الاعتقاد بعدم وجود الله”.
اللاإلهائية السلبية تكثر عند شعوب شرق آسيا مثلا. في أديان الشرق الأوسط الفكرة الدينية المركزية هي فكرة الله أو الآلهة، وأما الأفكار الدينية الأخرى فهي هامشية أو ثانوية مقارنة بفكرة الله. في سورية مثلا لو سألنا عينة من الناس عن موقفهم من الله فكلهم سوف يكون لهم موقف. غالبيتهم سيقولون أنهم يعتقدون بوجود الله، وربما يقول بعضهم أنهم لا يعتقدون بوجود الله. أما لو سألنا نفس العينة مثلا عن فكرة “عذاب القبر” فسوف نرى تباينا. المسيحيون عموما لن يعرفوا ما هو المقصود بـ”عذاب القبر”، وبالتالي هم لن يجيبوا عن السؤال، أما المسلمون فهم كلهم أو معظمهم يعرفون معنى عذاب القبر، وبالتالي بعضهم سيقول أنه يعتقد بوجود عذاب القبر وبعضهم الآخر قد ينكره. نفس الأمر سيحصل مثلا لو سألنا عن فكرة “تناسخ الأرواح” (reincarnation) التي تسمى شعبيا في سورية باسم “التقمص”. بعض الناس سيعرفون ما هو المقصود بهذه الكلمة وسيعبرون عن رأيهم فيها، ولكن هناك آخرون لن يعرفوا ما هو المقصود بها، وبالتالي هم لن يجيبوا عن السؤال.
مغزى ما سبق هو أن فكرة “الله” هي الفكرة الدينية الجوهرية في سورية ولا يوجد مواطن سوري لا يعرف ما هو معنى الله. أما في شرق آسيا فالوضع مختلف. في بعض مناطق شرق آسيا لو سألنا عينة من الناس عن رأيهم في الله فبعضهم سيصفن ولن يعرف بماذا يجيب، لأن هذه الفكرة هي ليست فكرة جوهرية في بعض ديانات شرق آسيا كالديانة البوذية مثلا. هي لديهم فكرة هامشية وليست مركزية. الديانة البوذية تقر وجود الآلهة، ولكن ليس كل البوذيين يعلمون ذلك. إذا كان الشخص متدينا ومطلعا فهو ربما يعلم ذلك، أما إذا كان من عامة الناس فهو ربما لا يعلمه. في المقابل لو سألنا عينة من البوذيين عن رأيهم في تناسخ الأرواح فكلهم سيجيبون على السؤال. كثير منهم سيقولون أنهم يؤمنون بتناسخ الأرواح، وبعضهم قد ينكر تناسخ الأرواح، ولكن الجميع يعرف ما هو المقصود بتناسخ الأرواح، لأن هذه الفكرة هي الفكرة المركزية في الديانة البوذية.
“اللاإلهائي السلبي” هو إنسان ليس لديه موقف من قضية الله. هي بالنسبة له قضية مجهولة أو أنه يعرف ما هي ولكنه لا يملك رأيا حولها. هذا النوع من اللاإلهائية يكثر في شرق آسيا، وهو موجود أيضا في أوروبا، أما في سورية فهو نادر. هذا النوع من اللاإلهائية ليس معتقدا دينيا. هو في الحقيقة يعبر عن غيابالاعتقاد الديني حول الله (سواء كان هذا الاعتقاد إيجابيا أم سلبيا).
أما “اللاإلهائية الإيجابية” فهي تمثل معظم اللاإلهائيين في سورية. هؤلاء يفهمون جيدا ما هو معنى الله، وهذه القضية بالنسبة لهم هي قضية مهمة ولهم رأي فيها، ولكن رأيهم هو سلبي، بمعنى أنهم ينكرون وجود الله.
اللاإلهائية الإيجابية (بخلاف اللاإلهائية السلبية) هي معتقد ديني، بمعنى أن أصحابها يحملون موقفا دينيا من قضية دينية هي الله. هؤلاء يأنفون عادة من تشبيههم بالإلهائيين theists (الذين يعتقدون بوجود الله)، ولكن بصراحة من الناحية العلمية المحايدة لا يوجد فرق بين الإلهائيين واللاإلهائيين الإيجابيين. هذان الصنفان من الناس كلاهما يحملان معتقدا دينيا يتعلق بالله، ولكن هناك تناقض في الموقف. لا يمكن في العلم الحديث (القائم على المادية) أن نرجح كفة طرف على طرف آخر. لا يمكننا من منطلق علمي أن نقول أن موقف اللاإلهائيين الإيجابيين هو أصح من موقف الإلهائيين. اللاإلهائيون الإيجابيون يربطون أنفسهم عادة بالعلم الحديث ويحاولون تصوير الإلهائيين على أنهم بعيدون عن العلم، ولكن هذا الكلام هو بصراحة دجل وشعوذة. العلم الحديث يقوم على الدليل المادي الملموس، وقضية الله هي قضية غيبية غير مادية. هذه القضية لا يمكن للعلم الحديث أن يفصل فيها. هذه القضية يمكن البحث فيها في الفلسفة، ولكن ليس في العلم الطبيعي. من يستخدمون العلم الطبيعي الحديث (science) لدعم موقف اللاإلهائيين الإيجابيين أو الإلهائيين هم بصراحة يجهلون أساسات العلم الطبيعي الحديث. هم يعانون من مشكلة جوهرية عميقة في فهمهم لطبيعة العلم الحديث وطبيعة قضية الله. العلم الحديث غير مؤهلأصلا لتحديد وجود الله من عدمه، لأن الله ليس ماديا، والعلم الحديث لا يحكم سوى على الأمور المادية الملموسة. من يحاولون تحديد وجود الله من عدمه عبر العلم الحديث هم كمن يحاول استخدام برنامج مخصص لماكينتوش على ويندوز. هم يستخدمون الشيء الخطأ في المكان الخطأ.
موقف العلم الطبيعي الحديث من قضية الله هو موقف لاإلهائي سلبي. العلم الحديث لا يؤكد وجود الله ولا ينفيه. هذه القضية ليست من اختصاص العلم الحديث حتى يكون له رأي فيها.
من كل الكلام السابق أردت أن أبين أن اللاإلهائيين الإيجابيين (المعروفين في سورية بالملحدين) هم أصحاب معتقد ديني، وأنه لا توجد أفضلية علمية لمعتقدهم الديني على معتقد الإلهائيين. العلم لا يدعم معتقدهم الديني ضد معتقد الإلهائيين، وبالتالي لا يوجد أساس علمي للتمييز والتعصب الذي يظهرونه تجاه الإلهائيين. مشكلة الملحدين في سورية هي أنهم متعصبون جدا. هم ينظرون باستعلاء بالغ تجاه الآخرين، ولا يوجد لديهم في الغالب أدنى احترام لمقدسات ومعتقدات الأديان الأخرى. لهذا السبب تراهم ينطلقون في السباب والشتائم تجاه المعتقدات الغيبية والمقدسات ظنا منهم أن هذا أمر مشروع لأنهم فوق بقية البشر. هم يعتبرون أنفسهم علميين وينظرون لأصحاب المعتقدات الأخرى على أنهم خرافيون، وبناء على هذه النظرة السقيمة هم يستحلون الإساءة والتعصب ضد أصحاب المعتقدات الأخرى.
فلسفة الملحدين السوريين وأفكارهم ونفسياتهم لو حللناها نجد أنها لا تختلف شيئا عن فلسفة ونفسية بقية السوريين. الملحدون السوريون ينزهون أنفسهم ومعتقداتهم ويقدسونها ويجعلونها فوق مصاف معتقدات البشر الآخرين، وفي نفس الوقت هم يحقّرون معتقدات الآخرين ويسفّهونها ويستحلّون الإساءة إليها بل ومحاولة إلغائها. هذا التركيب العقلي والنفسي هو نفس تركيب الإسلاميين. لا يوجد أي فرق.
التركيب النفسي لغالبية السوريين هو نفسه. هو تركيب قائم على تنزيه النفس وتقديسها وتحقير الآخرين ومحاولة إلغائهم. هذا التركيب النفسي السقيم هو التعصب الذي نتحدث عنه. التعصب هو صفة عابرة للأديان والمعتقدات وغير مرتبطة بدين أو معتقد معين.
أنا لا أريد من الملحد أن يحترم معتقدات المؤمن ولا العكس. كل إنسان حر بمعتقداته. ولكن ما يهمنا هو السلوك. أنت من حقك أن تكره المؤمن أو الملحد، ولكن الكراهية يجب أن تظل محصورة داخل نفسك وألا تنعكس على سلوكك في المجتمع. السلوك يجب أن يظل دائما سلوكا سلميا حضاريا قائما على الاحترام المتبادل. حبذا لو نميز في سورية بين الاحترام النفسي والاحترام السلوكي. لا نريد من الناس في سورية أن يحترموا بعضهم نفسيا، ولكننا نريدهم أن يحترموا بعضهم في السلوك والتعامل. إذا استطعنا الوصول إلى هذه المرحلة فهذا سيكون إنجازا لأننا سنكون قد تخلصنا من السبب الأساسي للعنف.
البعثيون تاريخيا فشلوا في مكافحة التعصب لأن كثيرا منهم كانوا متعصبين، والمريض لا يمكنه أن يشفي الآخرين. الجيل البعثي الذي حكم سورية في الستينات كان يضم كثيرا من الماركسيين. الإلحاد الماركسي هو ربما أسوأ أنواع الإلحاد، لأن أصحابه يستندون إلى الفلسفة (وليس العلم) ولديهم نظرية فلسفية أحادية متعصبة لا تقل خطورة عن نظريات الإسلاميين. التفاهم مع الماركسيين هو على ما أظن لا يقل صعوبة عن التفاهم مع الإسلاميين. الماركسي يصنف الناس في فئات ويحكم على بعض الفئات بأنها رجعية مستغلة وأخرى بأنها شريفة نظيفة، وبناء على هذه التصنيفات وعلى المفاهيم الجذرية (الراديكالية) الخطيرة التي تحملها العقلية الماركسية فإن النتيجة واضحة وهي الصدام الحتمي في المجتمع. هذا الصدام ليس أمرا مكروها في العقلية الماركسية بل بالعكس هو أمر ممتاز ومرغوب لأنه يعبر عن “ثورة البروليتاريا” واجتثاث الاستغلال والرجعية وتحقيق الشيوعية وغير ذلك من الشعارات النظرية.
بالإضافة إلى هؤلاء الماركسيين كثير من أفراد النظام البعثي الحاكم كانوا من الأقليات المذهبية في سورية، وهؤلاء هم أيضا متعصبون ولديهم أحقاد وعقد.
هل هذا الجيل البعثي كان قادرا على مكافحة التعصب؟ هذا الجيل هو نفسه كان بحاجة للعلاج. ما فعله هذا الجيل هو أنه فاقم من التوترات المذهبية والطائفية في سورية وأوصلنا إلى الوضع المتفجر الذي ما زلنا فيه.
مكافحة التعصب لا تكون بمحاولة إلغاء الدين أو الرموز الدينية. هذه التصرفات تفاقم التعصب ولا تزيله. الملحدون يفسرون التعصب على أنه يعني الدين، وهم يعتبرون مكافحة الدين مكافحة للتعصب. من فهم الكلام الذي ذكرته في الأعلى يدرك مدى خطورة هذا التفكير والسلوك. هذا التفكير والسلوك هو التعصب بعينه، وهذا التفكير والسلوك هو ما فجر المجتمع السوري.
طبعا نظام حافظ الأسد أوقف النزعة المعادية للدين التي سادت في الستينات، ولكن رغم ذلك هو لم يقم بأي جهد لمكافحة التعصب ومسبباته. هو لم يكن يعلم كيف يكافح التعصب، وما قام به فاقم التعصب في المجتمع بدلا من أن يخففه.
التعصب هو أسلوب خاطئ في التفكير. التعصب يقوم على الأفكار النظرية الجامدة والأحكام المسبقة والقناعات الراسخة. هذه الأمور هي البنية الفكرية للتعصب. من يريد مكافحة التعصب يجب أن يكافح هذه الأمور. نظام حافظ الأسد بتعليمه وإعلامه رسخ هذه الأمور بدلا من أن يكافحها، والنتيجة كانت تصاعدا غير مسبوق في التعصب.
طبعا هناك أمور كثيرة في المجتمع تفاقم التعصب منها سوء الوضع الاقتصادي والقمع والتهميش، ولكنني هنا لن أتحدث عن هذه الأمور لأنني تحدثت عنها سابقا. أنا الآن أتحدث عن البنية الفكرية للتعصب. البنية الفكرية للتعصب تستند في الأساس إلى الجمود الفكري والتفكير النظري غير العلمي. لمكافحة التعصب وإزالة بنيته الفكرية لا بد من تغيير نظام التعليم في سورية جذريا والانتقال نحو نظام تعليمي يقوم على منطق البحث والتحري وليس منطق التلقين والحفظ البصم.
الإنسان السوري حاليا هو حافظ، والمطلوب تحويله إلى باحث.
هدف نظام التعليم السوري يجب ألا يكون تحفيظ المعلومات للطالب، وإنما تعليم الطالب كيفية البحث العلمي. هذا هو أساس الإصلاح التعليمي المطلوب.
لو كنت وزيرا للتعليم لكنت أصدرت قرارا بمعاقبة كل معلم يسأل طلابه أسئلة من قبيل “عدد كذا…” “اذكر كذا…” “صف كذا…” “تحدث عن كذا…”. هذه الأسئلة ليست تعليما وإنما تجهيل. المعلم الذي يسأل طلابه أسئلة كهذه يجب إرساله إلى جامع لكي يصبح شيخ كتاب. هذه الأسئلة يجب منعها منعا باتا في نظام التعليم السوري. هذه الأسئلة هي أساس كل مصائب سورية. هي أساس الجهل والتخلف والتعصب والفقر والهزائم. كل مصائب سورية أساسها هو هذه الأسئلة (عدد واذكر وسمع…).
لو كنت وزيرا للتعليم لكنت منعت المعلمين من إعطاء ما يسمى بالوظائف المدرسية. ما هي الوظائف المدرسية؟ هي في الغالب مجرد تمرين على الكتابة. الطالب يذهب إلى البيت ويجيب على أسئلة سخيفة يمكنه الحصول على إجابتها من كتابه المدرسي أو من أي مصدر. العملية هي مجرد نقل وكتابة بدون تفكير. ما هي الفائدة من هذه الوظائف؟ هل هي فقط تضييع الوقت؟
بدلا من الوظائف المدرسية بالمعنى النمطي يجب على المعلمين تكليف طلابهم بإجراء أبحاث. في كل أسبوع أو أسبوعين يجب على الطالب أن يجري بحثا حول موضوع ما. الطالب يجب أن يبحث بنفسه في مصادر المعلومات ويتعلم كيف يكتب بحثا علميا متكاملا مع ذكر مصادره.
كثير من السوريين حاليا يميلون لرمي المعلومات جزافا. عندما تسأله سؤالا تجده يجاوبك دائما سواء كان يعرف الجواب أم لا. والأدهى من ذلك هو أنه يتمسك بجوابه ولا يقبل أن تناقشه فيه وإلا فإن ذلك يعتبر إساءة شخصية له وطعنا في كرامته. هذه الثقافة كلها يجب أن نتخلص منها. يجب أن نربي الطالب منذ الصغر على عدم رمي الكلام جزافا. إذا أردت معرفة الجواب على سؤال ما فيجب أن تذهب وتبحث في المصادر. حتى لو كنت تعرف الجواب فيجب أن تبحث في المصادر ويجب أن تذكرها لنا حتى نأخذ كلامك على محمل الجد. ثقافة المصادر هي حاليا ثقافة غائبة لدى الكثير من الناس. آخر ما يفكر فيه كثير من المواطنين هو أن يبحثوا في المصادر. بعض الناس يفضلون أخذ المعلومات من الوحي أو الإلهام، والأدهى هو أن معلوماتهم التي يأخذونها من الوحي تعتبر معلومات مقدسة لا يجوز الطعن فيها وإلا فإن ذلك يعتبر طعنا في كرامتهم.
أنا أتحدث بصيغة تشبه التعميم ولكنني أفترض أن القارئ يدرك أن السوريين ليسوا كلهم هكذا طبعا. أنا أتحدث في الأساس عن الثقافة الشعبية، أما الناس المتعلمون تعليما جامعيا فهم ليسوا كلهم هكذا وهناك في سورية باحثون وكتاب وعلماء محترمون. ما ورد في هذا المقال هو نقد لظواهر سلبية شائعة في المجتمع ولكن يجب ألا يفهم أحد أنني أعمم على كل السوريين، لأن هذا بحد ذاته هو كلام غير علمي وهو قمة الجهل.
غياب المصادر
من أهم المصائب التي يعاني منها المجتمع السوري هي غياب المصادر العلمية. فعليا لا توجد أي مصادر جيدة للمعلومات باللغة العربية.
أنا سأتكلم عن نفسي. أنا درست في طفولتي باللغة العربية ولم أتعلم القراءة بالإنكليزية إلا في الجامعة. أنا أعتبر أنني كنت جاهلا قبل أن أتعلم القراءة بالإنكليزية. لا يمكن بصراحة للإنسان أن يتعلم ويتنور إلا إذا تعلم القراءة بالإنكليزية. كل المصادر والموسوعات والأبحاث ومواقع الإنترنت هي باللغة الإنكليزية. المصادر العربية هي عموما لا قيمة لها. هي إما قديمة أو أنها عبارة عن ترجمات من لغات أخرى. لا يوجد مصادر أولية للمعلومات باللغة العربية. كل مصادر المعلومات العربية هي مصادر ثانوية أو حتى ثالثية (ترجمات ونقولات). هذه المصادر بصراحة لا قيمة لها. هي في الغالب قديمة أو غير مترجمة جيدا. لا توجد مراجع باللغة العربية يمكن أن تغني عن القراءة باللغة الإنكليزية.
هذه مشكلة كبيرة جدا، وهي من أهم أسباب التخلف العلمي والثقافي في سورية. كثير من اليافعين والشباب يريدون القراءة والتعلم، ولكن لا توجد مصادر. هم لا يجدون سوى مصادر رديئة قديمة.
هذه المشكلة لا حل لها سوى بأحد أمرين:
- تحويل لغة التعليم في المدارس إلى لغة أوروبية (الإنكليزية)
- الاعتماد على جهود الدولة في الترجمة والنشر بالعربية
لبنان طبق الأسلوب الأول، وسورية طبقت الأسلوب الثاني، فكيف كانت النتيجة؟
الدولة السورية فشلت فشلا ذريعا في موضوع الترجمة إلى العربية، ومن ينكر ذلك هو إما غير صادق ولديه أجندة غير حيادية أو أنه ببساطة جاهل ولا يعلم ما الذي يجري في العالم.
الترجمات السورية إلى العربية هي رديئة للغاية. هي مليئة بالأخطاء، وكلها قديمة وغير مفيدة. أنا درست في الجامعات السورية وأعرف ما الذي أتحدث عنه. موضوع الترجمة إلى العربية في سورية هو فاشل بامتياز، ولا يمكن لمن يعتمد على الترجمات السورية أن يكون متعلما تعليما جيدا.
الفشل في الترجمة هو انعكاس للانحطاط والفشل العام للدولة السورية. لو كانت الدولة السورية دولة ناجحة اقتصاديا وعلميا لكانت الترجمة إلى العربية ربما ازدهرت بشكل أفضل من الشكل الحالي، ولكن الواقع الحالي للترجمة في سورية هو شبيه بالواقع في كل المجالات الأخرى.
طبعا موضوع التعليم باللغات الأوروبية هو إشكالي، والبعثيون لديهم تعصب للغة العربية وهم لن يقبلوا به، حتى وهم يرون أن هذا الأسلوب ناجح في لبنان ودول عربية أخرى.
لا يمكن بصراحة لسورية أن تتقدم إلا إذا صار الطلاب السوريون قادرين على الاستعانة بالمصادر العلمية المكتوبة باللغة الإنكليزية. أنا لو لم أكن قادرا على القراءة بالإنكليزية لما كنت أعرف شيئا ولما كنت استطعت كتابة أي موضوع حول أي شيء. هذه هي الحقيقة وهذا هو الواقع. من يرفض قبول الواقع سيظل جاهلا متخلفا طوال حياته ولن يتقدم أبدا.
عندما أريد الكتابة عن أي موضوع لا بد أن أرجع إلى مصادر مكتوبة باللغة الإنكليزية. لا يمكنني بغير ذلك أن أكتب أي شيء. هذا الأمر ينطبق على أي شخص يريد أن يكتب كلاما حديثا ومنتميا للعصر، أما من يريد القراءة من مصادر قديمة فيمكنه ربما أن يجد مصادر عربية، ولكن ليس على الإنترنت.
سورية لا تنتج أي علم يذكر. كل العلم ينتج في الغرب. من يريد العلم يجب أن يحصل عليه من الغرب باللغة الإنكليزية أو لغات أوروبية أخرى. هذه هي الطريقة الوحيدة للتعلم والتقدم. الطرق الأخرى كالترجمة إلى العربية هي طرق فاشلة وعبثية. المصيبة هي أن هذه الطرق العبثية ثبت فشلها بالتجربة ولكن البعثيين رغم ذلك يتمسكون بها (ماذا نسمي هذا إلا أنه قمة الجهل؟)
من الممكن في رأيي أن نوجد في المدارس السورية نظاما ثنائي اللغة، بمعنى أن يكون التعليم باللغتين العربية والإنكليزية معا. هذا النظام ليس مستحيلا وهو ممكن نظريا، ولكن إمكانية تطبيقه العملي في سورية هي أمر مشكوك فيه. الدولة السورية لها تاريخ حافل من الفشل في أمور أبسط من هذا. هذا الموضوع يفوق طاقة الدولة السورية وهي لن تنجح فيه.
الطالب السوري هو طالب مجد، وهو يمكنه أن يدرس باللغتين العربية والإنكليزية معا، ولكن المشكلة ليست في الطالب وإنما في الدولة. تطبيق هذا النظام بحاجة لجهود كبيرة لا قبل للنظام السوري بها. هو أصلا لا يهتم بهذه القضية. رغم أن التعليم هو أهم شيء ولو أننا نجحنا في تطوير التعليم فهذا سينعكس على كل شيء بما في ذلك الاقتصاد والسياسة والعلاقات الاجتماعية. كل شيء سيتغير.
المصيبة هي أن بعض أوساط النظام السوري على ما يبدو ترفض تعليم الطلاب اللغة الإنكليزية. هم يعتبرون هذا اختراقا ثقافيا أميركيا. هذا النمط من التفكير هو كارثة حقيقية وهو أسوأ من الاستعمار الأميركي والصهيوني. انتصار الوهابيين والصهاينة في سورية هو أفضل من هذا النمط من التفكير.
لو كان الأمر بيدي لكنت جربت طريقة التعليم ثنائي اللغة. هذا الأسلوب موجود على ما أظن في بعض المدارس الخاصة في سورية. هو ليس بدعة ولا معجزة، ومن الممكن نظريا تطبيقه في التعليم الرسمي. المناهج السورية االقديمة كان فيها الكثير من الكلام والحشو الذي لا داعي له. بدلا من الكلام الزائد الأفضل هو تصغير الكتب وجعلها باللغتين العربية والإنكليزية. لا أدري كيف ستكون التفاصيل، ولكن من الممكن مثلا أن يدرس الطالب الكتاب باللغة العربية وبعد ذلك يدرسه مجددا باللغة الإنكليزية، أو من الممكن جعل السنوات الدراسية الأولى بالعربية والسنوات المتأخرة بالإنكليزية. المهم هو أن يصبح الطالب قادرا على القراءة والكتابة العلمية باللغة الإنكليزية. إذا تحقق هذا الهدف فهو يعني أن الطالب السوري سيصبح على تواصل علمي وثقافي مع العالم الغربي، وهو ما سينعكس بشكل سريع وهائل على مستوى التعليم والثقافة في سورية.
طبعا أصحاب النظريات الانعزالية سيعتبرون أن هذا الكلام يفتح الباب للغزو الثقافي الأميركي. مقاومة الغزو الثقافي لا تكون بالانعزال وإنما بالتعليم والتثقيف والتحصين. أنا سبق أن كتبت عن هذا الموضوع وشبهت القضية بقصة الهنود الحمر وكيف انقرضوا بسبب انعزالهم. المؤسف هو أن النظام السوري لا يقبل نظرية التحصين وهو يفضل نظرية العزل والقمع. هذه هي مشكلتنا الكبرى مع النظام السوري. هذه العقلية الانعزالية القمعية لدى النظام هي أساس التخلف في سورية وهي أساس كل المشاكل.
![]()
![]()
View Original