لعلّ العام 2011 الذي ودعناه منذ أيام قليلة، والذي هو عام شعوب منطقتنا بامتياز؛ هو في الحقيقة عام رحيل الطغاة بالمجمل إذا ما أضفنا حادثة رحيل الطاغية الكوري العتيق في الطغيان، ولكن الشعب الكوري لم ينل شرف إزاحته بحركة ثورية، فقامت الأقدار بتلك المهمة، مما جعل هذا العام عاماً خاصاً بمنطقتنا بكل أعراقها وأديانها ومذاهبها. وإن كانت الثورات العربية كلها ذات طابعٍ بطولي، ولمحات استثنائية؛ إلا أن الثورة السورية تربّعت على عرش العام الفائت، واحتلت تفاصيل أخبارها الوجدان العربي والإسلامي على مدار الشهور العشر من عمرها. فلقد أظهر الشعب السوري بطولات استثنائية وقدرات هائلة على الابتكار والإبداع، في ظل تعامل قمعي وحشي لنظام لا يمكن أن يقارن بغيره من الأنظمة.
لقد مرّت الثورة بمراحل مختلفة منذ يومها الأول، وإذا أردنا أن نرتّب تلك المراحل بدون ان نخوض في التفاصيل الجزئية، نستطيع أن نعتبر أن المرحلة الأولى كانت مرحلة ولادة العمل الثوري ولقد حملت طابعاً حماسياً عفوياً كون تجربة الثورة تجربة غريبة عن ثقافة السوريين، بل إنها كانت كفكرة غريبة عن مخيلتهم أيضاً.
بينما كانت المرحلة الثانية مرحلة بدء ولادة العمل الثوري السياسي مع تشكل التنسيقيات واللجان المسؤولة عن متابعة وتنظيم الحراك على الأرض، بالإضافة إلى تنسيق العمل فيما بينها، وهنا بدأت الثورة تتابع سيرها بطريقة احترافية أضيفت للحماسة التي انطلقت بها المرحلة الأولى. في حين كانت المرحلة الثالثة مرحلة إنتاج الكيان السياسي الوطني الممثل للثورة أو لنقل مرحلة (محاولة) إنتاج ذلك الكيان، نظراً للتعثر الذي حصل خلال هذه المرحلة بالإضافة إلى الإشكاليات التي ظهرت مع ظهور الكيان السياسي والخلافات بين مكوناته، وأقصد بالكيان السياسي كل الهيثات والإئتلافات والمجالس التي بدأت بالتشكّل كنتيجة للحالة الثورية ..
لقد حملت المرحلة الأولى الغموض بين أيامها، فلم تكن الرؤية واضحة، وكان لسرعة الحسم في الثورتين التونسية والمصرية أثرٌ سلبيٌ على تلك المرحلة من عمر الثورة، فلقد ارتبط نجاح الثورة في ذهن السوريين الثوار بسرعة الحسم كدليل على نجاح الثورة، وكان اليأس يتسرب إلى النفوس كلما طالت المدة أكثر في حين كان الثوار يتابعون عن كثب التحول السريع لمجريات الأمور في تونس ومصر، كون الشعب السوري أعلن سلمية ثورته اقتداءً بالتجربتين المذكورتين. ثم ما لبثت المرحلتان الثانية والثالثة أن حملتا تغيراً في طريقة التفكير، اقترن ذلك مع تغيّر الأحداث على الساحة الليبية، والذي فرضه التدخل الدولي لحسم الأمر هناك؛ فأصبحت شعارات الثورة السورية وخطوطها العامة تشير بوضوح إلى الرغبة بدفع الأحداث نحو السيناريو الليبي، وتوجيه الدفة السياسية بما يتناسب مع تلك التوجهات، حيث بدا ذلك واضحاً من خلال تسميات أيام الجمع، ثم من خلال توجيه سياسات المجلس الوطني الذي تشكّل لاحقاً بمباركة الثوار، يضاف إلى كل ذلك التبرؤ من هيئة التنسيق وبعض الأصوات المستقلّة التي كانت ولا تزال تعارض أي شكل من أشكال التدخل الدولي لحماية الثوار.
ظنّ الثوار أن الضغط باتجاه التدخل الدولي وتوحيد الأصوات في طلبه سيعجّلان من حدوثه، رغبةً منهم في الحسم أمام نظام صمد طوال هذه الشهور أمام الثورة التي غلب عليها الطابع السلمي.
مع نهاية المرحلة الثالثة من عمر الثورة وبعد أن أثمر جهد المعارضة في الحصول على ضغط عربي من خلال الجامعة العربية؛ بتعليق عضوية النظام في الجامعة وإرسال بعثة من المراقبين، وبعد دخول المراقبين وبدء تحرّكهم داخل الأراضي السورية، أصبح الشعب السوري أقرب إلى فكرة أن العالم حتى وإن تعاطف مع قضيّته فإنه غير معنيٍّ بالتدخل في سوريا على غرار التدخل في ليبيا، فالحسابات الدولية في منطقة كسوريا تختلف عن الحسابات في ليبيا لعوامل كثيرة؛ كما تبيّن للشعب السوري أن التعاطف الإنساني من شعوب العالم قد لا يتحوّل في وقت قريب إلى فعلٍ سياسي، لسببٍ بسيطٍ وهو أن الوضع في الدول الكبرى لا يختلف (من هذه الناحية) عن الوضع في الدول الأخرى، فالضمير الإنساني الشعبي يحتاج إلى وقتٍ وجهدٍ مضنيين حتى يتحول إلى فعل سياسي، وقد يحتاج هذا بحد ذاته إلى ثورة في تلك البلدان !.
يضاف إلى ذلك حقيقة أن الجامعة العربية هي في النهاية مجموع أنظمة عربية تخشى على مواقعها من انتقال عدوى الثورة إلى أراضيها، ولذلك فإنها تحاول البحث قدر الإمكان عن صيغة توافقية للحل في سوريا، على غرار نموذج الحل اليمني.
قد تبدو هذه العوامل الأخيرة عوامل مثبّطة لهمّة الثوار، لكن في الحقيقة فإن ما أظهرته الأيام الأخيرة من المرحلة الثالثة (أي الأيام الأخيرة من العام 2011) عكس ذلك تماماً، فالثورة هي متوالية اجتماعية تتناسب طرداً مع الزمن، وغير قابلة للعودة إلى الوراء؛ فعوامل غياب التدخل الدولي الفعّال، وتلكؤ الجامعة العربية في دعم الشعب السوري، كلها عوامل أثبتت لهذا الشعب أنه هو صاحب هذه الثورة، وأن الحسم بيده وحده !..
كما أن الأحداث المصرية الأخيرة نقضت فكرة انتهاء الثورة المصرية، مما أعاد الأمل إلى نفوس الثوار بأنهم يسيرون بالاتجاه الصحيح، وأن عامل الوقت لم يكن لصالح النظام المنهك، ولم يكن عكس مصلحة الثورة؛ بل على العكس، أثبتت الأيام الأخيرة أن الثورة آخذة في الانتشار بالرغم من القمع والقتل الوحشيين، والأهم من الانتشار نفسه هو شدة التنظيم بالرغم من الاعتقالات التي طالت الآلاف من الناشطين، والتي كنا نظنها ستضعف من التنسيق وتنظيم العمل، لكن الثورة أثبتت قدرتها على التجدد والانتشار وإعادة التنظيم بشكلٍ غير مسبوق. صحيح أن الثوار لا يتأمّلون كثيراً من لجنة المراقبين العرب، ولكن لنعترف أن لهذه اللجنة فضل في زيادة إصرار الشعب على تنظيم صفوفه، فالأسبوع الأخير كانت أيامه كلها جُمعاً، وشهد يوم الجمعة نفسه خروج أكثر من ثلاثة ملايين متظاهر !..
ما أريد أن أختم به ملاحظاتي على هامش هذا العام، الذي هو عام الثورة السورية، أن الأيام المقبلة ستشهد إصراراً وتنظيماً تراكميين خصوصاً بعد أن تيقّن الشعب أن الحسم بيده وحده ، واهتماماً أكبر بابتكار أساليب متنوّعة للمقاومة السلمية على كافة المستويات وصولاً إلى إضرابٍ عام ثم عصيان مدني، كما سيشهد انشقاقات أكبر في صفوف النظام والجيش، ولكن الأهم من الانتشار العامودي للثورة في صفوف النظام هو الانتشار الأفقي لها في صفوف الشعب، وهذا هو أحد عوامل النجاح الأساسية لأية ثورة سلمية ..
…………………………………………………………
عماد العبار
View Original