بقلم نضال نعيسة
بتلك الكلمات الهادئة الرزينة والمدروسة، تماماً، لم يكن الرئيس السوري بشار الأسد، يلقي خطاباً عادياً، وعابراً، كذاك الذي يلقيه أي مسؤول أو زعيم سياسي في مناسبات عادية، أو احتفالات محلية، بل كان في الحقيقة، يعلن نهاية حقبة وبداية حقبة ما، كان يقول بشكل غير مباشر أن ما يسمى بالثورة السورية قد باتت في حكم الماضي، وأن هناك ملحمة ومأثرة سورية سـُطـِّرَتْ خلال الأشهر العشرة الماضية التي استطاعت فيها سوريا بشعبها العظيم، وجيشها العظيم، وصمودها الأسطوري أن تهزم وترد أشرس الهجمات
وأعتاها بربرية في التاريخ. إذ لم يسبق أن توجهت أكثر من ستين فضائية عالمية، وحلف الناتو لقضه وقضيضه، بشيبه وشبابه بساركوزيه وأوبامه، وهيلاريه وأنجيلاه، مضموماً لهم منظومة مشيخات التعاون على الإثم والعدوان في الخليج الفارسي، وتسع عشرة دولة ناطقة باللغة العربية، والاتحاد الأوروبي المفلس، يؤازر هؤلاء جميعاً أسطول وفيالق جرارة من المرتزقة، والمأجورين، والحنجوريين الطبالين الزمارين الحاضرين في كل عرس وردح وشتم مع دعم لوجستي ومالي خرافي بترودولاري أسطوري وغازي، ولو أنزلنا كل ذاك الهجوم الإعلامي المنسق على جبل لرأيته خائراً متهشماً ومحطماً بفعل العدوان.
كل شيء في الخطاب محسوباً، مكانه، وتزمينه، لم يكن صدفة، ولا عبثاً، ولم يعلن عنه، فاختيار المكان مدرج جامعة دمشق، وليس مجلس الشعب أو أية مؤسسة حكومية سورية أخرى ربما للنأي بالنفس وبالشعب السوري عن المرحلة السوداء المظلمة الماضية، فلكل هذا دلالاته الهامة للتأكيد على عراقة هذا الصرح العلمي والأكاديمي وبـُعد سوريا وعمقها الحضاري العظيم، فحين اسست هذه الجامعة في العام 1890 م، لم تكن هناك ولا كرتونة من كرتونات المجلس المشيخي التي تتطاول اليوم على القامة السورية، وهذا الموقع هو موقع ومرتع وملك لكل سوري، ومرت عليه، ودرست فيه وتخرجت منه كل قوافل المكونات والقامات السورية العظيمة في السياسة، والاقتصاد، والعلوم، والطب، والإعلام…إلخ، وأن المعركة لما تزل في طابعها المدني ولم تأخذ أي بعد عسكري قد يفاجئ كثيرين في حال حدوثه. وأما التزمين فكان الإعلان عن الخطاب بـُعيد ظهر يوم أمس الأول، ولمـّا تنقضي بعد أربع وعشرون ساعة على صدور التقرير الأولي لبعثة المراقبين العرب التي اعترفت وأكد على وجود العصابات المسلحة واعترف بلا سلمية التظاهرات، لتكون كل كلمة يقولها الأسد في هذا الصدد مجرد حاصل موثق بتقرير البعثة، ولا تحتاج لإثبات ونفي وشك وجذب ورد وصد، وكله بتأييد من فريق الجامعة العربية التي أصدرت قراراتها الشهيرة الجائرة ضد سوريا، وقد أشار الرئيس الأسد إلى ذلك صراحة عندما قال: ” لم يكن سهلا ببداية الأزمة شرح ما حصل وكانت الانفعالات طاغية على الحقائق والآن لم يعد ممكن تزوير الحقائق”. كما كان لسلسلة من المعطيات الأخرى المعلومة وغير المعلومة بحوزة الرئيس، مع جملة من التطورات الأخرى على الأرض، أهمها، طراً، خروج القوات الأمريكية من العراق، والمناورات الإيرانية واختفاء البوارج الأمريكية هرباً من مياه الخليج الفارسي، ودخول الأسطول الروسي، والبارجة كوزنتسوف وتمركزها في شرق المتوسط.
لقد كان الخطاب، وبزمنه القياسي ساعتان إلا عشر دقائق، يعكس أعلى درجات الثقة بالنفس وضبط النفس(هذا الكلام ليس من عندنا، كلا وألف حاشانا وحاشاك، بل باعتراف عطوان، والمناع ذات نفسه، وتعبيره وشعوره، بالمرارة وخيبة الأمل من الوضع القائم، ولا يمكن لأحد التشكيك بأقوال معارض مخضرم، وشرس للنظام السوري، في لقائه أمس مع البي بي سي.)، والشعور بالقوة، ما حدا بالصحفي عبد الباري عطوان، للقول إن الرجل بدا وكأنه يتحدى العالم كله. وهذا مبني على معطيات قوية لديه فلم يكن الأسد تصالحيا ولا مستجدياً، ولن تتأتي هذا، كما هو معلوم من فراغ أو عدم، أو قائم على فراغ، والكل يعلم أنه كان في الآونة الأخيرة حصلت نجاحات أمنية هائلة في التصدي للجماعات المسلحة (إلى كل من لازال يرطن بسلمية الثورة، اللعب صار على المكشوف وعمليات القتل والتهريب والتدمير والإبادة الجماعية لما يسمى بالجيش السوري الحر باتت حقيقة وخبراً ثانوياً و”بايت” في الإعلام العالمي)، تم من خلالها القبض على المئات من مسلحي القاعدة، وطاليان وخريجي غوانتانامو، والضباط الخلايجة، وثوار الناتو الليبيين، من جماعة عبد الكريم بلجاج، ناهيكم عن استسلام المئات الأخرى لقوات الأمن والجيش السوري في عمليات نوعية، وفرار آخرين إلى تركيا ودول الجوار. هذا على الصعيد المحلي، وعلى الصعيد الإقليمي، ومن دون الالتفات للموقف العربي العميل والهزيل والتابع والمرتزق، وغير المهم إلا في جانبه الصوتي المزعج، هناك انكفاء وتراجع تركي ملحوظ وما زيارة الثعلب أوغلو إلى طهران إلا لتوسل سلام وتطبيع مع سوريا، مع وجود عشرة آلاف شاحنة وبراد تقف على الحدود التركية السورية، تعفن ما بداخلها، تكاد تشكل صداعاً وغضباً شعبياً لأردوغان، مع خسائر بالمليارات نتيجة إغلاق الحدود السورية بفعل إلغاء سوريا لكل التفاهمات الاقتصادية مع تركيا. كما كانت المناورات البحرية الإيرانية رسائل هامة في أكثر من اتجاه حول جدية إيران واستعدادها المطلق واللا محدود للوقوف بحزم ضد أية استفزازات أمريكية فإيران في صلب المواجهة، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأن المواجهة إستراتيجية، بالنهاية، وتستهدف إيران(اغتيال العالم الإيراني مصطفى أحمدي روشن، الذي كان يعمل في موقع ناتنيز النووي)، أيضاً، وكل ذلك تحت غطاء الإصلاح والديمقراطية وهمروجة الربيع العربي. كما أن التصميم الروسي الصيني، ضمن مجموعة البريكس، لمنع اللعب بالتركيبة الجيو-استراتيجية القائمة، والعبث بموازين القوى الدقيق في المنطقة، لأنه سيعني تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي، والصين، ورجحاناً للكفة الأطلسية، في المنطقة، ومن هنا تأتي الرسائل الروسية القوية التي تتأكد يومياً، وما “تقريع” لافروف، يوم أمس، لنبيل العربي حول ضرورة الإشارة بقوة، والتأكيد، على موضوع الجماعات المسلحة في عمب وتقارير الجامعة، إلا تأكيد على جدية موسكو التي لا تتزحزح في النظر للملف السوري وأهميته القصوى بالنسبة لها.
وفي الوقت الذي اتسم فيه خطاب الرئيس الأسد بكل تلك الصفات من الثقة بالنفس، والاتزان، والرصانة، والرزانة، والشمولية، والالتزام بأعلى درجات المسؤولية الوطنية، نرى، خطاب المعارضة “الثورية” الاسطنبولية، الذي اتسم وعلى الفور، ومن خلال الظهور الفوري لغليون، على الشاشات، “إياها” بالانفعالية، والانهزام، والعجز، والتوتر، والاضطراب والهذيان، والقلق، والتخبط، والعصابية، والتهديد وتوسل الذهاب لمجلس الأمن العاجز وغير القادر أن يتحرك قيد أنملة، خطاب موتور هائج مائج متشنج يعكس حالة مرض هذا المجلس وتفككه وانقسامه، وتشتته، وضياعه بين أمزجة مفلركيه وتوجهاتهم وإرضاء للعواصم الكثيرة التي تحركه، وانفضاحه شعبياً وسقوطه التاريخي في وحول العمالة والارتهان للخارج العدواني الذي يريد تدمير سوريا والرقص على أشلاء شعبها، كما رقص سابقاً على أشلاء العراقيين والليبيين وغيرهم من شعوب الكوكب الأرضي، وهذه كلها مؤشرات على انتصار سوري ساحق ماحق، واندحار لمعسكر الأعداء، في هذه الجولة الهامة وبعد عشرة أشهر من المواجهة، على الأقل، وحتى الآن.
نعم هذه هي سوريا، جبل النار الأشم اللاهب الذي لا يمكن لأي كان أن يعبره، دون أن يتحول إلى رماد.
View Original