منذ عقود خلت ، كانت حماة ضحية حكم عاث في البلاد فساداً، فهدم الأخلاق ونشر الرذيلة، وجعل من الشعب راشياً ومرتشياً، استصغر بجيش البلاد ليجعل جنوده حراساً في “كولبة” حقيرة أمام قصور وفلل ضباطه…
فأغرق حماة بالقنابل والقذائف عبرة لكل المدن الأخرى كي يثبت حكمه وقد دفع بروايته التي ضد الإسلاميين وانقلابيين وشيوعيين في آذان الناس وأطباق موائدهم، فابتلع جنده المدينة نهباً وسرقة وتشريداً بأهلها، وبحكم طبيعتهم الافتراسية قطعوا أوصال الأطفال قبل أن يعلقوا الكبار على المشانق، وحشروا الشمس خلف صورة قائد مسيرة “التصحيح والنضال” كما كدسوا المعتقلين في عزلة جافة وميتة في قبر صحراوي على كتف بقايا حضارة تدمرية توحي بقتامة أن في هذا المكان وبزمان غير هذا الزمان كان هناك بشر لهم حضارة ولهم فيها حياة ومجد على عكس ما توحي آثار قبورهم أن هذا الزمان هو لعواءات الذئاب…
ذنب حماة أنها ما استوعبت أن الأسد سواء أضحك أم زمجر، فإنه ليس أبعد من حيوان مفترس، وأن هولاكو قد عاد من جديد وأن فلول القوم المتشرذمين لا تقاوم ناراً همجميين اشتد سطوتهم بحركة تصحيحة هي بالجوهر انقلاب وخيانة وتصفيات نوعية…
فتدمرت المدينة ، واغتصبتها بساطير العسكر، وما عاد لها أبناء ، وحتى جيرانها ما عادوا جيرانها، كل منهم تنكر خوفاً من سيف المغول وقد مجدوا اسم الطاغية أقوى حيوان في الغابة : “قائدنا إلى الأبد ، الأمين حافظ الأسد….”.
ومات القائد الخالد بعد ثلاثين سنة عجاف، كدس خلالهم متاحف الاشتراكية بخطابات بالية وتماثيل له ولابنه الشهيد الذي قضى كبطل كرتوني في ساحات الرخى خلف مقود سيارته الفارهة!… أعظم إنجازات ذلك الطاغية عدم الخنوع للإمبرايالية العالمية ومسك العصى من الوسط! فهو يقف مع طرف ضد من يعاديه وقبل أن يضمحل المعادي ويختفي يدعمه ضد الطرف الأول فيبقي البلاد بسياسته هذه في حالة من الفوضى الخلاقة ويسود هو كمسيطر على الأرزاق والأبواب فيصبح هو الملاذ لكل الأطرف على بقية الأطراف، هكذا طغى في لبنان والعراق وفلسطين وكردستان، هكذا خدع الخليج بطرفيه الفارسي والعربي، وهكذا تنقل ذئبقياً بين وارسو وناتو ودول عدم الانحياز…
جيل الأباء مات في صمت، أو بالأحرى مات بغصة الصمت، أما جيل الأبناء فقد عشش في لفائف مخه كتاب القومية وملخصاته وتصدر صورة القائد في صفحة الغلاف الأمامية، وصفحة الغلاف الأخيرة، وفي المقدمة والفهرس ، وبين الفقرات وبين الكلمات وبين الحروف، وفي المحلات وصدريات الأطفال وصدور الجنود وبلّور السيارات وعربات الذرة المشوية، وصار هو الأب للطلائع والرفيق للشبيبة والطالب الجامعي الأول والنقيب الأول والحرفي الأول والصناعي الأول والعاهر الأول والكلب الأول ، أي صفة هو مبتدأها وهو خبرها… بفضله صعد محمد فارس إلى الفضاء وبفضله يهطل المطر وتتغنى البلاد بالعمران والبنى التحتية وإن كانت كلها كرتونية كبطولة ابنه شهيد المقود…
ومات القائد الخالد، فانكسرت بموته كذبة مريديه ، كيف يموت وهو قائدنا إلى الأبد؟… لا ، لم يمت! فالقائد خالد وابنه الطبيب سيكمل المسيرة وسيحيي ذكره وفضله، صحيح أنه بديل غير كفوء، بديل هزيل من نسل طاغية مستبد، إلا أنه على قياس شعب ارتضى بالكفاف وتجنب تقارير الظلام، وهل للخراف أي غثاء غير تمجيد الذئاب؟
بعض الخراف قالوا إنه شاب وآن الأوان لحكومة شابة ترعى هموم الشباب، الحقيقة أن ليس البعض من قال ذلك، بل الكل قالوا ذلك، ونسبة المئة إلا عشر ليست كذبة وطنية، بل هي واقع شعب لا يتجرأ على مواجهة أقبية المخابرات وجعل رئتيه جزءاً من رطوبتها وجلده طبلة لعصيها؟
الثلاثون عاماً زادت أحد عشراً في عهد الوريث، وتكاثرت فيها شعارات الصمود بالمقاومة والممانعة وابتعد الابن في وصف من كان أبوه يمسك العصى معهم من المنتصف بنعتهم بأنصاف الرجال، فقلة خبرته وبقاءه في ظل أخيه شهيد المقود لم تجعله يمسك العصى من الطرف فقط، بل ترك العصى كلها!…
وعندما حوّل البلد إلى مزرعة حقيقة، والشعب أضحى في عهده أفواه جائعة، والجيش صدئ وبنادقه رطبة وأقصى إنتصاراته الحربية هي الاحتفاظ بحقوق الرد ضد الطائرات الإسرائيلية والصحون الطائرة والمذنبات العابرة…
ومن دولة اشتراكية إلى دولة استهلاكية، فآلت السلطة تحت تدبيره برجوازية المزاج عائلية القيادة ، الأيدي الأمنية صارت أذرع اخطبوط يدخل في جيوب الناس ودفاترهم وفحوى أحاديثهم و”مكمورات” أطفالهم… كان أبوه أفهم بالتدبير الاستبدادي من ابنه، فشعرة معاوية كانت دائماً مع الشعب مشدودة عندما ترخوا عزائمهم ويرخيها إن قويت عزائمهم، يرضيهم ويرضي نفسه، الأب مسيطراً على كلابه الأمنية وذئابه العسكرية، بينما الابن وزع سلطاته بين المخلصين له والأقرباء، فسلم رقاب الشعب إلى خمسة عشر فرعاً أمنياً غير ذات تنسيق فيما بينها، بل هي رقيب عتيد على بعضها أيضاً، أما أرزاق الشعب فصارت كلها بتصرف عائلة مخلوف غسالة الأموال العائلة الأسدية… في عهد الطاغية الأول كان الشعب يؤلهه وحده كرب أوحد ، أما في عهد الطاغية الأغبى فالأرباب عديدة ومنها ما هو غير وطني كرب إيران وحزب الله وفنزويلا وأردوغان وحمد إن كانوا يعزفون على النوطة الأسدية…
وكما لا يمكن للشمس أن تستقر في صحن السماء فهي آيلة للسقوط وراء الأفق، وكما أن الفصول تتعاقب وأن لا شيء يدوم في هذا الكون سوى من خلقه وصوّره، فخنوع الشعب لن يستمر أبداً وغطرسة الطغاة لن تبقى فوق أقدار الناس دائماً، فانبثقت من عتم المملكة الأسدية شرارات الحرية من الجنوب والشمال، من الصحراء والبحر ، من الجبل والسهل، من ألم البطالة وأسرّة المرضى ومن حسابات المسلوبين ومن كرامة المذلولين، لم يعد في البلد أي قلب رطب لم يخفق للحرية إلا من آثر الرضوخ للاستبداد حتى ينتصر أحد الأطراف فيؤيدونه جبناً وذلاً، وانقلب الشعب الحر أرض متعطشة للمطر، الحرية هو سقياها من سجن مسجى بخطابات المقاومة والصمود والممانعة، بينما ما هي إلا مقاومة للتغيير وصمود في وجه الشعب وممانعة لأي فكر لم تؤثر فيه كتب القومية…
وعادت الكرامة إلى حماة من جديد، الريف مع الحاضر مع السوق تجمعوا في ساحة العاصي، لم يعد هناك من أحفاد أو أبناء مشانق تدمر وزنازين صيدنايا وأقبية فرع فلسطين إلا وقد طلعوا للنور جماعات جماعات، تحسبهم صخور لا تهاب التفتيت، مئات الألوف تجمهرت وبإسقاط العصابة ومحاكمة المجرمين نادت وهتفت، وبسلميتها قناصة الظلام والجبن ومخالب الأمن دحرت، وأعلنت حماة مدينة محررة، مدينة لم تعرف هل تبكي على الآباء القتلى ومن عاش منهم في خنوع بعد مجازر والد الطاغية بشار، أم تفرح على دحر فلول الأسد وقطع أذنابه وخلع تماثيله في هذه المدينة…
وكما ماتت الإنسانية في وجدان هابيل عندما قتل أخاه، شهد رمضان طوقاً شائكاً من الدبابات والضباع الأسدية حول المدينة ، قطعوا عنها المدد والكلأ ، قطعوا عنها أي منفذ هواء ، ثم ضيقوا الحلقة شيئاً فشيئاً ، حتى تفرقت الجموع مرغمة بفعل قذائف وطلقات ولسعات واعتقالات ، فقد هجم عليها من لا يحترمون الصيام ولا يدركون ما معنى الأخ في الإنسانية والدين والوطن، هجموا كالثيران الهائجة وعاثوا فيها فساداً وقتلاً ، بينما العالم يراقب بصمت غير مصدق أن الأخ يقتل أخيه وأن ابن الطاغية يقتل ابن الضحية… هكذا صار التراث السوري بالوراثة…
ما فعلوه بحماة لم يكن وليد اللحظة، بل هي منهجية مغولية ، فعلوها قبلاً في البيضا والرستن وجاسم وإنخل وجبل الزاوية و… ولم يتوقفوا عند حماة، بل نسخوا المنهجية نفسها إلى بابا عمرو وداريا ودوما والرمل الفلسطيني ودير الزور وغيرها من المدن المنسية في جيوب الفيتو الروسي والصمت المحلي والخيانة الأخوية…
ومن أرض الجريمة والمصيبة، تلتقط كاميرا أحد الأحرار أم ثكلى على أبناءها الثلاثة، تقول باكية مقهورة “بالماضي دفنت أباهم مقتولاً ببواريد الأسد، واليوم أدفن أبناءه ببواريه أشبال الأسد، ربيتهم أيتام في عشرين سنة ، واليوم أنا من أنا؟ أنا لعنة وحقد في قلب حيوان الغابة، لن أكون أمة لهم… ولن أرضخ… الله لا يخلينا إذا منخليك يا بشار، الله يفجعك بأهلك يا بشار”…
وما إن خرجت القوات من حماة وقد مزقت جموعهما وشردت عائلاتها حتى عاد من عرفوا طعم الحرية إلى تذوقها من جديد وعاد معهم الطوق الأمني الذي صار أكثر هلعاً وهمجية وكأنه أدرك أن نهايته باتت وشيكة، فها هي مدافع الهاون (المورتر) تحيط باب قبلي من جديد، وبنفس المنهجية الخبيثة، يعتقدون أن قذائف ومدافع قادرة على وأد النواعير في العاصي، هم بالحقيقة لا يحاولون قمع احتجاجات ومظاهرات كما فعلوا بالماضي، بل هم ينتقمون ممن سيسقطونهم شر سقطة وقد حسبوا أنفسهم أن حماة وأخواتها أقل من الزبداني ودوما بل هي أشد حزماً وعزماً… فمدينة كحماة ليست مرهونة بقاشوش واحد، بل كلهم قاشوشيون وكلهم أحرار لا يرضون بالذل ولينتشر صوتهم في أرجاء البلاد مزلزلاً قلاع الأسد الكرتونية “سوريا بدّا حرية…. سوريا بدّا؟ حرية”… ، ولتحفظ صورة تلك المرأة في ذاكرة التاريخ خنساء تعلم الشعب معنى الصمود والمقاومة والبسالة والشرف…
View Original