لم أنسَ برنامج الحوار الذي شاهدته على قناة مصرية بعد الثورة، وفيه قال ضيف: “نريد دولة علمانية ديموقراطية”، فرد عليه الآخر:”مش علمانية…مدنية …مدنية”، و كانت ردة فعله مفاجئة بشكل جعلني أشعر أن الشخص الذي قال “علمانية” قد أساء للذات الإلهية أو لحرمة دينية أو اجتماعية معينة و هي أمور لا يتسامح معها مجتمعنا بشكل عام. لماذا نخاف من هذه الكلمة بهذا الأسلوب؟ حتى أصبحت أحيانا نوعا من أنواع الذم والشتيمة “هاد شخص علماني بدون ضمير” أو “ما بخاف الله”؟! ومنهم من يذهب أبعد من ذلك ويتهم العلمانيين باتهامات شديدة القبح! كما قال وائل السواح:”يجد مفهوم العلمانية في سوريا نفسه شيئا فشيئا مثل ابن الزنا الذي لا يريد أحد أن يتبناه.” وأيضا قال جورج طرابيشي:”قد استبيحت العلمانية حتى باتت تكافئ بشكل آلي تهمة أو سبة.” ربما من صرخ “مدنية…مدنية” لا يعرف أن الدولة المدنية هي دولة علمانية, لكنه يخاف استخدام كلمة علمانية؟!
حتى أن الشيخ القرضاوي قال بأحد الخطب واصفا النظام التونسي بالعلماني الطاغية أو المجرم. لا أذكرالتعبير بشكل حرفي، لكني أسأل سماحة الشيخ هل يمكن مقارنة الأنظمة العلمانية في ألمانيا أو النمسا أو اليابان بنظام بن علي!؟ أو حتى بالأنظمة الإسلامية في السعودية أو إيران؟! يمكنني أن أختصر كل هذا المقال بمثَل ” التجربة أكبر برهان”, لكن مع كل هذا التشويه للعلمانية في العالم العربي لا أعتقد أن هذا يكفي.
من الصعب اللّم بجوانب العَلمانية بتعريف واحد في جملتين فكثيرون عرّفوا العَلمانية، ولم أرى أحد يختزلها فقط بالمقولة الشهيرة “فصل الدين عن الدولة”, على الأقل أنا شخصيا لايمكن أبدا أن أختزلها بذلك. العلمانية بجانبها السياسي البحت هي انتقال السلطة من الله (وهي بالحقيقة ممن يظن نفسه أو اختير ليكون نائبا عن الله, بما أن الله لا يمكن أن يحكم بشكل مباشر) إلى الشعب. والشعب تعني كل أطيافه بغض النظر عن أي شيء آخر. فهذا يجعل من العلمانية أرضا محايدة لكل أطياف المجتمع والشعب لممارسة العمل السياسي. وهذا الجانب السياسي لا يمكن فصله عن الجانب الإجتماعي لأن السياسة أولاً وأخيراً أداة لمجتمع يتألف من أفراد ومجموعات تحمل أفكارا وعقائد مختلفة. قد تكون مختلفة في العائلة الواحدة في الكثير من الأحيان. كما قال برهان غليون عن العلمانية :”احترام حرية الضمير بما تعنيه من حق اختيار العقيدة والتعبير عن الرأي والدفاع عن الفكر المختلف.” أنا أعتقد أن كلمة عقيدة هنا تطال جميع الأفكار وليس فقط العقائد الدينية.
كلمة عَلمانية أتت من “عَالَم” و ليس “عِلم” كما يعتقد الكثيرون, بمعنى أن الفكر العَلماني يستند إلى حجج وبراهين من هذا العالم وليس مما وراء الطبيعة الذي يعتمد على القناعة الشخصية ولا يمكن إثباته بشكل ملموس. وهذه الحجج و البراهين البشرية تتمثل بالمنطق والعلم والحقائق وموضوعية الفكر وتجرده, أما ما وراء هذا العالم فهوغير قابل على الإدراك بشكله الحقيقي من قبل العقل البشري المحدود, فالجدل والاقتتال على الأمور الغيبيّة هو جدل عقيم, والجزم بها مستحيل أيضا. واشتقاق كلمة علمانية من كلمة “عالًم” تعني أن اهتمام الناس يصب بجعل هذا العالم الذي نعيش فيه (مبدئياً على الأقل) عالما أفضل, وهو ما باستطاعتنا فعله و لو نظريا كحد أدنى. بحسب فهم الكاتبة اللبنانية نازك سابا يارد للعلمانية فإن الإنسان مخيربما يتعلق به كفرد و بالتالي الإنسان حر التفكير والمعتقد وهو إذاً حر بالتعبير عن هذه الأفكار واتخاذ القرارات وهذا يجعله مسؤولا عن نتائج اختياراته وقراراته إن كانت قد أودت به للهاوية أو للرفاه.
على الإنسان التصرف على أساس أن الحياة خاضعة لأفعاله بالخير أو بالشرّ, وإن كان هناك بالفعل قوّة عليا تتدخل بمجريات الأمور على الأرض فإنها “ليست من إختصاص” العقل البشري والإنسان, طالما أن الإنسان (و بحسب الفكر الديني) غير قادر على تغيير مجرياته. إن كان الفرد يرفض ما ذكر فلا يمكن للدولة إلا وأن تسنّ دستورها وقوانينها على هذه الأُسُس الحيادية العقلانية الموضوعية لتكون دولة مساواة وعدالة وحرية الفكر والنشاط السياسي, تراعي فئات المجتمع المختلفة وتتغير بتغير ظروفها الداخلية والخارجية.
اسحق نيوتن كان مسيحياً مؤمنا لكنه كان يقول :”علينا أن نفهم هذا العالم على أنه آلة”, فالعالم كأي حركة مكانيكية متألفة من فعل ورد فعل. فلم يكن يؤمن أن الله يتدخل بالشؤون اليومية وبأصغر تفاصيل حياة البشر, لكن إيمانه بوجود قوّة عليا خَلقت هذا العالم ورسّخت قوانينه الفيزيائية والكيميائية حتميّة. فالله بحسب الفلسفة اليونانية:”المحرك الأول الذي لا يتحرك”. و ابن رشد كان مؤمنا أيضا ومع ذلك كان من أوائل المفكرين في التاريخ الذين توصلوا إلى قناعة الحرية الفكرية للفرد.
و إن كان التفكير العلماني لا ينكر تأثير الدين على أخلاقيات الفرد والمجتمع فإن الحقيقة المطلقة في العلمانية غير موجودة, بل كل الأمور نسبيّة طالما أنها تتعلق بالإنسان وبفكره وبما وراء الطبيعة, بالتالي “الخطأ و الصواب” بالمعنى المطلق غير موجودان بل يختلفان بحسب الشخص والزمان والمكان. هنا يتم قبول الإختلاف وتكمن حرية المؤمنين على مختلف مذاهبهم واللادينيّن وجميع البشرعلى مختلف أجناسهم وأعراقهم ومدخولهم المادي وأديانهم.
عن العلمانية بحسب المفكر التونسي محمد الحداد:”تحييداً للفضاء العام عن سلطة العقائد المختلفة, الدينية والغير دينية, ليتمكن كل فرد من ممارسة حرة لدينه أو عقيدته أو مذهبه أو فلسفته الوجودية في حدود فضائه الخاص وفي إطار الاحترام المتبادل بينه و بين المختلفين أو الذين لا يرغبون أصلا في أن تكون لهم انتماءات دينية أو عقدية أو مذهبية.”
قال أيضا برهان غليون:” العلمانية بقدر نجاحها في ضمان الحريات الفكرية والسياسية, تفتح فضاء جديد وتخلق ظروف لا يمكن إلا أن تقود إلى تغير في أفكار الناس ومعتقداتهم ومنظومات قيمهم وتطلعاتهم. إنها تشكل إطار لولادة ثقافة جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة, هي الثقافة الحديثة, بكل ما تتصف به من استثمار في الفرد والشخصية الإنسانية,وقيم الحرية واستقلال الرأي والمساواة والنديّة, ومن الاهتمام بشروط الحياة الدنيويّة واعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة على الأرض والتمتع بالحياة الدنيا.”
فهذا كله هو ما يجعل في النظام العلماني حرية الاعتقاد وممارسته مطلقة وحرية التنافس الشريف بين مختلف المعتقدات أيضاً. وهنا أيضاً يَكمن جوهر تسامحه مع كل الأديان والمعتقدات. “العلمانية هي الوحيدة التي لا تؤسس لاختيار قِيمي آخر سوى حرية الاختيار, وضمان هذه الحرية بإجراءات قانونية وسياسية واحدة, ومنطبقة على جميع أصحاب العقائد بالتساوي.” (برهان غليون)
يقول أيضاً جاد الكريم الجباعي:” القانون الوضعي (العلماني) وحده يعبّر عن العناصر العقلية والأخلاقية المشتركة بين الأفراد والجماعات والفئات الإجتماعية ويضمن تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات, وحرية الفكر والضمير وحرية الاعتقاد وحرية العبادة وحرية التعبير بلا استثناء ولا تمييز, ويوفّر للأديان والمذاهب والطوائف والاثنيّات شروط النمو والتفتح والازدهار, وفق قوانينها الخاصة.”
فالعلمانية هي ليست فقط “فصل الدين عن الدولة” لأنه إذا كانت كذلك فقط عندها يكون الاتحاد السوفيتي علمانيا وهذا غير صحيح أبدا لأن الاتحاد السوفيتي كان من اكثر الدول استبدادية في التاريخ وإن كان هناك فصل دين عن الدولة، لكن الدولة حينها كانت تعادي كل الأديان, وهي نقيض العلمانية تماما المتسامحة مع كل الاديان.
ولا إسرائيل يمكن أن تكون دولة علمانية. “الدولة اليهودية العلمانية”؟ اسم متناقض بأساسه!!
إذا كان الإنتخاب هو الديموقراطية فإن اسرائيل كذلك إذاً. لكن من غير الممكن أبداً ان تكون دولة بأساس وجودها مرتكزة على فئة دينية محددة (برأيهم هي عرقيّة أيضاً) وتميز اليهودي عن غيره أن تكون علمانية أو ديموقراطية!
والآن أنا جالس أمام التلفاز أشاهد برنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة, يقول الشيخ القرضاوي إن الثورات أتت لتحكم الشعوب نفسها وفي نفس الوقت يتكلم عن رئيس أو أمير أو سلطان يحكم بالشريعة وبسنّة الله ورسوله. فالسؤال هل هوالمقصود حكم الله أو حكم الشعب لنفسه؟ لأن المفهومين متناقضين أشد التناقض.
العلمانية ليست عقيدة وليست الإلحاد, هذا أكبر خطأ في عالمنا العربي وأكثره شيوعاّ, وهو معاملة العلمانية كعقيدة دينية, ويمكنني أن استحضر ما كتبته المفكرة التونسية رجاء بن سلامة:”العلمانية ليست دينا وليست رأيا بل هي إتفاق مبدئي على إمكان تعدد الآراء, وجواز تعددها, وجواز اختلافها اختلافاً يمكن أن يبقى اختلافاً لا رجعة فيه, فلا حاجة إلى التوفيق بين المختلفين ما دام المشتَرك الذي يجمعهم رغم اختلافهم وقبل اختلافهم أساسياً, أي سياسياً. و الغفلة عن هذا البعد اللامذهبي للعلمانية يؤدي إلى تحويلها إلى ديانة جديدة مناهضة للديانات, وهو التصور الذي يريد الإسلاميون و’التراثيون’ اختزال العلمانية به. نقيض العلمانية تبعاً لذلك ليس الإسلام بل الأصولية باعتبارها أيديولوجية شمولية…”
و قال برهان غليون في هذا الموضوع:”…والقصد أن العلمانية ليست عقيدة دينية جديدة تنزع إلى الحلول محل العقائد الأخرى أو التعويض عنها, وإنّما هي قاعدة لإدارة التنافس بينها, وتنظيم طريقة التعبير عن اختلاف كل منها مع غيرها, بما فيها العقائد اللادينية, وهي تقوم على افتراض إمكانية تحييد الاعتقاد الشخصي والفلسفي في الأمور الجماعية التي تتعلق بإدارة الدولة, حتى يمكن للدولة أن تكون دولة للجميع, وليست دولة جماعة اعتقاديّة واحدة.”
فالعلمانية ليست الإلحاد أبداً, كما يسعى لإظهارها المتطرفون دائماً, بل هي حرية التفكير في أي اتجاهٍ كان, وإن وصل أحدهم إلى قناعة أن لا وجود لخالق فالعلمانية تحترم حريته بالبحث عن “الحقيقة” والوصول لهذه القناعة, كما تماما تحترم حريته بأن يقتنع و يؤمن “بأن لا الله إلا الله محمد رسول الله” وإن كان قد ولد من أهل غير مسلمين. و كما نَوّهت في المقدمة أن كثير من المؤمنين علمانيين, فالإيمان وعدمه لا يرتبط بالعلمانية بل هي في مجال آخر. حتى عدم الإيمان قد يكون منافي للعلمانية أحيانا, كمثال الاتحاد السوفيتي الذي ذكرته سابقا.
العلمانية ليست عقيدة وليست الالحاد. العلمانية ما نحتاجه في سوريا
View Original