اغتيالات عشوائية وموارد سورية البشرية تضيع هباء
ضحاياها: أصغر مخترع في العالم وعشرون رياضياً محترفاً وأطباء رسموا حلم الصحة للمستقبل
ولكن، لسبب أو لآخر، أصبح هؤلاء الفاعلون هدفاً للقطع المعدنية السريعة الحارقة، مهما كان سبب انطلاقها، والداعي لنفاذها في عقول أبناء سورية وأجساد رياضييها البارزين، وبالتالي في عمق جسد وطننا، لتنهكه كما لم تنهكه معركة من قبل، لتمضي كالمنجل في مستقبله، وكالملوثات النووية التي لا يشعر المرء بها في حينها. شهدت وتشهد أرضنا تصفية يومية لعقولٍ وأجسادٍ دفع الوطن ثمنها غالياً، وأرخى بكتفه عليها، لترفعه إلى مصاف الدول، بل إلى أولها، ليكون في مقدّمتها. وهذا التقدير، من جهتنا، لا يحمل أيّ مبالغة أو شطط أو انحراف أو تعصب.
اغتيالُ واستهداف العقول والنخب في سورية هو الهاجس الذي يلاحق كلَّ مفكر مهتم بمستقبل سورية. فإذا فرغت سورية منهم، كانت كأرض أشجار الزيتون، بائرةً لا تُعطي ثماراً إلا بعد جيلين أو ثلاثة.
لماذا قُتلوا؟
أسئلة قاهرة ليس لها جواب مع ما حدث في سورية، التي تمَّ توجيه السلاح إلى قطاعاتها الأساسية؛ الطبية، والرياضية، والعلمية..
“لقد كان صلباً مقداماً قادراً على فعل أيّ شيء، له قلب نسر وعقل أب”.. إنه غياث طيفور (بطل الملاكمة السوري)، كما وصفه أحد أصدقائه: “لقد كان صاحب مبدأ ودفاع قوي عن معتقداته، أحبّه خصمه على الحلبة فاحترمه، وأحبَّته الدول فدعته إلى مناسباتها الرياضية. كل ما كان في جدول أعماله هو التدريب والاهتمام بلياقته. ذنبه الوحيد -إن صحَّ أن نسميه ذنباً- هو أنه التزم بطرف دون آخر، هو أنه مارس حقه في اختيار الطرف الذي ينتمي إليه”. يكمل صديقه الأحداث، التي جرت مع طيفور قبل خسارة الوطن له، قائلاً: “أبدى بعضهم استياءهم من مواقفه، وطلبوا منه التزام الحياد بطريقة صدامية جعلته يتمسَّك ويؤمن أكثر بصحة موقفه، لكنَّ هذا لم يشفع له عند مهدّديه”. ويشرح كيف كان يتكلّم عن التهديدات التي تصله، وأنَّ طيفور كان مؤمناً بقضيته بشكل كامل، وأنَّ الدفاع عن القضية أكبر بكثير من التعلق بالحياة.. “وصحّت هذه التهديدات”؛ بأن قام أحد الأطراف باستهدافه، أثناء مروره بسيارته الخاصة في ساحة الجامعة في حلب. هذا الاستهداف أدَّى إلى وفاته على الفور، نتيجة إصابته بخمس طلقات في الرأس. غياث طيفور الضحية، بحسب أحد المتدربين على يديه، ولد في حلب سنة 1969، وسجّل أكثر من 15 إنجازاً؛ فهو حائز بطولة الملاكمة في سورية، وهو بطل حلب وسورية منذ 1984 لغاية 1998، كما يحمل ذهبية دورة المتوسط (1991)، وذهبية الدورة العربية العاشرة (1992)، وذهبية دورة مصر الدولية (1995)، وذهبية دورة الملك حسين في الأردن، وذهبية دورة استانبول الدولية، وذهبية دورة إيران الدولية، وفضية العرب للرجال (1999)، وفضية دورة سلوفاكيا (1993)، وفضية دورة داغستان (1997)، وفضية دورة البوسفور الدولية، وبرونزية دورة المتوسط في فرنسا، وبرونزية الألعاب الآسيوية، وبرونزية دورة إيران الدولية، وبرونزية دورة استانبول الدولية (1990)، وبرونزية البطولة العربية (1995)، وبرونزية دورة داغستان الدولية (1996).. تأهل إلى أولمبياد برشلونة عام 1992، لكنه لم يشارك لعدم انتهاء جوازات السفر. شارك في أولمبياد العالم العسكري عام 1996، كما شارك في بطولة العالم في ألمانيا (1995)، ووصل إلى دور الثمانية.
كان طيفور موظفاً في مديرية المنشآت الرياضية ومدرباً في نادي الشرطة في حلب. ويعد عميد الشهداء الرياضيين الذين استشهدوا خلال الأزمة؛ حيث تبعه أكثر من 12 رياضياً سورياً آخرين، كان لهم بصمتهم في تاريخ ومستقبل سورية، كلٌّ في مجاله، منهم: اللاعب أحمد سويدان (لاعب كرة القدم في منتخب شباب سورية سابقاً ونادي الكرامة)، وصبحي نحيلي (بطل ألعاب القوى)، ويمان الجوابرة (لاعب الكيك بوكسينغ)، وجمال بايرلي (لاعب الكاراتيه)، وفياض أبازيد (بطل سورية في رمي الكرة الحديدية).. يقول صاحب إحدى الصفحات الاجتماعية على الإنترنت، التي تُعنى بإحصاء الخسائر في الكوادر البشرية الرياضية: “هذه الأسماء كان ذنبها الوحيد أنها التزمت مع طرف دون آخر، وأنها دافعت عن التزامها، لكنَّ الآخرين لم يستطيعوا التفريق بين الانتماء السياسي وذاك الإنساني أو الوطني!!!!. جميعهم كانوا من أصحاب الروح الرياضية الكاملة، لم يشتكِ أحد من جوارهم أو من صداقاتهم.. التزامهم الإنساني كان عالياً جداً، وحبّهم للوطن كان أعلى بكثير من انتمائهم إلى إنجازاتهم الشخصية. مرّوا مرور الكرام في تاريخ سورية. كانت الابتسامة نادراً ما تغادر شفاههم. كانوا يدربون ويلعبون ويسعون دائماً للعمل على إنجاز الميداليات والانتصارات، التي تزيد من رفعة العلم السوري. كانوا ينتمون انتماءً كاملاً إلى وطنهم. طالتهم الرصاصات التي لا تفرق بين مخطئ ومصيب، كانوا في الجانب الخاطئ، وفي الزمان والمكان الخاطئين”.
يقول صاحب الصفحة، وهو مسؤول سابق في الاتحاد الرياضي: “ما يحدث على الأرض السورية يمكن وصفه بالمؤامرة، لكن ما يحدث للرياضيين وغيرهم من الخبراء والكفاءات لا يمكن أن يكون مؤامرة؛ فالكثيرون من الطرفين يرتكبون الخطأ الفادح بحقّ المستقبل في سورية، سواء عن قصد أم عن غير قصد. فمقتل رياضي محترف، سواء كان مقصوداً أم غير مقصود، هو جريمة في حقّ الوطن، قبل أن يكون جريمة جنائية. وأوصي جميع الرياضيين، مهما كان انتماؤهم، بأن ينأوا بأنفسهم عن الانخراط فيما يحدث على الأرض، وأن يحذوا حذو الفنانين والممثلين؛ فهم ثروة للوطن، لا يملكون حقَّ تقرير مصيرهم، لأنَّ أجسادهم ليست ملكاً لهم، بل هي ملك أبناء الوطن. فأيّ رياضي عندما يحقّق هدفاً في مرمى الخصم، يعرف تماماً مدى الفرح الذي يملأ قلبه، لأنه أفرح قلوب السوريين جميعهم، على اختلاف اتجاهاتهم السياسية ومشاربهم”.. وهم -كما يقول صاحب الصفحة- “غير مطالبين حقاً بأن ينتموا إلى طرف من الأطراف. وبما أنهم اختاروا أن يكونوا ملكية عامة لخدمة سورية، وجب عليهم التزام الحياد، ليحافظوا على ما أنجزوه، أو ليرسموا مستقبلاً جديداً لما يحلمون بإنجازه”. وذكر أسماءَ أكثر من 21 لاعباً رياضياً ممن قضوا على مستقبلهم الرياضي بشكل لا منطقي؛ فقط لينتموا إلى طرف دون آخر.
التمني الذي طرحه المسؤول السابق في الاتحاد الرياضي، واجهه كثير من الرياضيين، الذين قابلتهم “بلدنا”، بالرفض، معتبرين أنهم جزء من النسيج الاجتماعي السوري، وأنَّ الهمَّ السوري همهم، وأنهم أبناء الوطن قبل أن يكونوا رياضيين، وأبناء الشعب السوري قبل أن يحققوا أي ميداليات. أما الرياضيون الذين آمنوا بفكرة النأي بالنفس، فقد غادروا البلاد؛ لأنهم، كما يقول أهالي بعضهم، لم يستطيعوا الوقوف على الحياد، بسبب الالتزامات التي كانت تطلب منهم؛ إذ كان يُطلب منهم صراحة إيضاح الموقف والعمل على تحقيق موقفهم؛ مع الطرف الأول أو الثاني على السواء.. وكان ضحية الرصاصات العمياء أيضاً منصور العلي (بطل سورية في كمال الأجسام)، الذي تمَّ اغتياله أيضاً وحرمان المجتمع الرياضي السوري من خبراته العالية وفرص العالمية التي كان يسعى إليها.
كان هناك كثير من صفحات التواصل، التي تخلد الرياضيين وتذكر مناقبهم وقدراتهم العالية على العمل والعطاء، ولكنها حملت أيضاً إنذارات ووعوداً بالانتقام والعشوائية التي تملأ قلوب القارئين بالحقد ضدّ الطرف الآخر، وتطلب منهم الانتقام. وعند الحديث مع أصحاب هذه الصفحات، أبدوا الكثير من الإقصائية للطرف الآخر، والتحريض لمن يقرؤونهم بعدم التهاون. بمراجعة الكثير من الوثائق الإلكترونية التي حصلت عليها “بلدنا”، تبيَّن أنَّ الرياضيين أصبحوا وسيلة ضغط لخدمة مصالح الأطراف على الأرض؛ فنادي أمية توجّه بالاتهام إلى أحد الأطراف بأنه من أجبره على إعلان انسحاب فريقه الكروي من الدوري الممتاز السوري، الأمر الذي دفع اتحاد اللعبة إلى إقرار هبوطه إلى الدرجة الثانية. وبحسب زعم ناديي الكرامة والوثبة، تكرَّر معهما الأمر ذاته، لذلك طلبا تأجيل المباريات حتى إشعار آخر، بسبب الضغوط التي يتعرّض إليها اللاعبون في أن يلتزموا طرفاً دون آخر؛ يقول أحد اللاعبين: “كلا الطرفين يريدان منا أن نلتزم جانبه؛ فلا الطرف الأول يتساهل في حال ادعينا أننا ضدّه، ولا الطرف الثاني سيسامح في حال أعلنا موقفنا وكنا ضدّه. وهنا، خلال هذه الأزمة، لا يمكن للمغامرة أن تدخل الملعب؛ ففي كلا الطرفين متشددون وفي كلا الطرفين من لا يلتزم بأخلاقيات طرفه ويقوم بالعمل الارتجالي الذي يكون في النهاية مستنكراً من كلا الطرفين (ونحنا منروح فراطة)”- ختم اللاعب. فياض أبازيد (بطل سورية في رياضة ألعاب القوى- دفع الكرة الحديدية) توفي أيضاً نتيجة مواقفه، وخسرت سورية بوفاته بطلاً رياضياً ومدرساً لمادة التربية الرياضية في محافظة حلب، بعد أن تخرج في كلية التربية الرياضية في اللاذقية، وأكمل دراساته العليا في درعا (دبلوم تأهيل تربوي). فياض (39 عاماً) وحيدٌ لعائلته، وأبٌ لابنتين عمر الأولى ثلاث سنوات والثانية ولدت بعد وفاته بساعات قليلة.
المخترعون خسارة لا تعوَّض
“من العقول النادرة، حقَّق ما لم يفكر في تحقيقه أيّ بشري على الإطلاق”؛ يقول (ع .ح) أحد أصدقاء الشاب عيسى عبود، أحد أشهر المخترعين في العالم وأصغرهم؛ فهو حاصل على جائزة أصغر مخترع في العالم. هذا المخترع هزَّ العالم أجمع بقدرته على تخزين المعلومات الإلكترونية على دماغ الديك وعلى الخلايا الحية. يعطي (ع. ح) مثالاً على اختراع عبود، بأنه إذا تمَّ تطويره يتمكَّن الإنسان من وصل أي كرت ذاكرة إلى دماغه، وتحميل المعلومات التي يريد أن يحفظها؛ تماماً كما يقوم بعملية القص واللصق على الحاسوب. يقص (ع. ح) حكاية عبود، الذي كان “مفعماً بالطموح والأحلام. درجاته، التي حصل عليها في الثالث الإعدادي، كانت تؤهله إلى دخول الثانوية العامة، لكنه اختار أن ينخرط في مجال الصناعة، فاختار الثانوية الصناعية باختصاص الإلكترون. لم يكن يحبّ الالتزام بالدوام، لكنَّ الدرجات العليا كانت تحبّه وتلتصق به في كلّ امتحان”. ويتحدث (ع. ح) عن حبِّ الطلاب والأساتذة لعيسى، الذي قدَّم أول اختراعاته أثناء سنوات الدراسة الثانوية، ثم تتالت الاختراعات وتتالت شهادات التقدير، حتى شارك في معرض الباسل للإبداع والاختراع، وحصد العديد من جوائزه بكافة أصنافها. وهنا يتوقف (ع.ح) عن الكلام، في محاولة لكبت بعض الكلمات، لكنه لم يبذل عناء كبيراً في كبتها، قائلاً: “اختراعات عيسى كانت مميزة جداً، وكان يتنقل بها ويعرضها على ذوي الشأن والاختصاص، ولكنه كان دائماً يواجه الصدّ، حتى إنَّ بعضهم كان يغار من اكتشافاته، وبعضهم الآخر وعده كذباً، والقليل من قدَّم القليل، وكثيرون جداً من حرضوه على السفر خارج سورية؛ بحجة أنَّ المجتمع هنا لن يستطيع أن يعطيه أيّ قيمة مضافة. وحين قرَّر السفر لم يحالفه الحظ”. عيسى عبود وُلد في الحديدة التابعة إلى محافظة حمص والتي تبعد عنها 30 كم، كان في ريعان الشباب عندما أنجز أكثر من 7 اختراعات، تهافتت السفارات الغربية للحصول عليها وإقناعه بالسفر إلى بلدانها للعمل فيها. وكانت شهادات الكثيرين فيه أنه ظاهرة عبقرية فذة قلَّ نظيرها في العالم، وهو طاقة جبارة للبلد. وقد ظهر في أحد البرامج التلفزيونية متحدياً الجميع بأنه يستطيع أن يصنع ما يضاهي مخابر ومراكز الأبحاث في الغرب واليابان.. “عيسى عبود” قُتل أثناء مشيه مع ابن عمّ له يُدعى علاء مصطفى عبود في شارع الحضارة في حمص. وأكد كثيرون ممن اطلعوا على قضيته أنه قد تمَّ التمثيل بجثتي المغدورين بعد قتلهما. يُشار إلى أنه لم يُعرف مرتكبو هذه الجريمة البشعة حتى الآن. حاولت “بلدنا” الاتصال والبحث في من قد تكون له مصلحة في قتل عيسى، لكن جميع الأطراف استنكرت القتل، الذي وصفه أحد الأطراف بأنه جريمة العصر، واستحضر أحد الأطراف لحظة إعدام العالم الكبير لافوازيه الذي حكم عليه بالإعدام، حين انتشرت الجملة الشهيرة: “ليت المقصلة، التي قطعت هذا الرأس في ثوان، تعلم أنَّ الأمة الفرنسية تحتاج إلى عقود من الزمن لتنجب مثله”.
كوادر الجامعات والمستشفيات وكسر ظهر العلم
في حي الخالدية في حمص كانت الدكتورة ميادة أنيس سيوف (الأستاذة في جامعة البعث في حمص- مواليد حمص 1964) في طريقها إلى مكان عملها في الجامعة، وبرفقتها ابنتها، ليختارها “أصحاب الأفق المحدود”، كما يقول أحد تلامذتها.. فهم لم يروا فيها إلا بعض الكلمات، التي أفصحت عنها، وكانت ضدّ توجهاتهم، فتجاهلوا تماماً التاريخ العلمي وقضوا على عشرات السنوات من الدراسة وتخزين المعلومات، وقاموا بإطلاق النار عليها، لتستشهد هي وتنجو ابنتها مع السائق.. الدكتورة كانت تلتزم طرفاً دون آخر، حسبما وصف بعض الطلاب، ولكنها كانت تلتزم أيضاً العلمية في سير كلّ كلامها، وكانت لا تصرّح بشكل مباشر عن ميولها. ولكن هذا لم يشفع لها بأن تستثمر ما تعلّمته طوال حياتها في بناء الوطن ومتابعة العمل على تطويره.
شاركها الطريق إلى السماء، تاركاً الأرض لمن لا يعرفها، المهندس أوس عبد الكريم خليل، المختص في الهندسة النووية في الجامعة نفسها التي تدرّس فيها الدكتورة ميادة. والمهندس أوس عُرف بالصرامة، والصدق، والقدرة الكبيرة على التعامل مع المواقف الصعبة التي تظهر قدرة الرجل فيها.. يصفه طلابه بأنه عاقل، ومتزن، وصارم، “ويعطي من قلبه”، ويحب عمله، وجعل الهندسة النووية سهلة سائغة للدارسين. اتزانه دفعه إلى الإفصاح عن ميوله، فأفصح مناقضوه عن ميولهم، وتمَّ اغتياله أثناء إيصاله زوجته إلى مكان عملها. ماذا خسرت سورية بخسارته -قال أحد زملائه- “عدا عن الاختصاص المصنّف غاية في الأهمية بالنسبة إلى سورية ومستقبل الطاقة النووية فيها، كان المهندس نابغة في التحليل والتطبيق والاستنتاج وإيجاد الحلول، إلى جانب قدرته العالية على التعليم، وعلى استيعاب ما يريده الطلاب، وقدرته العالية على الشرح والتبسيط والتسهيل. وهذه الصفات نادراً ما توجد في المتخصصين في هذا المجال”. أما المهندس ماهر غدير (مواليد عام 1974، من سكان حي المهاجرين، وهو رئيس محطة أبو رباح للغاز في حمص)، فلا يقلّ تميّزاً وخبرة عن سابقيه، بشهادة أقرانه وأصدقائه.
كحال الجامعات، لم تسلم المستشفيات والكوادر الطبية من المواقف المتحيزة، التي لا تحسب إلا حساب المكاسب الآنية، ليكون ضحية هذه المواقف الطبيب حسن عيد (الاختصاصي في الجراحة الصدرية)، والطبيب أنور السقا، والطبيب شادي زيدو في حلب، والدكتور مصطفى محمد سفر..
خوف من التحدث إلى الصحافة
كثيرون، ممن حاولنا التواصل معهم من أهالي الشهداء الذين تمَّ ذكرهم في التحقيق، لم يبدوا الاستعداد للتحدث عن الحادثة التي ألمّت بهم والخسارة التي لحقت بأسرهم، لأسباب اختلفت في الشكل واتفقت في المضمون.. فالخوف من الانتقام لأنهم تحدثوا إلى الصحافة يساورهم، حتى إنَّ بعض الأهالي طلبوا ألا نورد أسماء شهدائهم في التحقيق، حفاظاً على ما تبقى من الأسرة، وطلباً للحيادية المحضة والركون إلى ظلّ الأمان بعيداً عن ضوء الحقيقة، إذ لا يعلم أحد منهم من يطرق بابه أو من يغافله من الخلف أو حتى من يرسل له الأوراق أو التهديدات أو الزيارات غير المتوقعة والأحاديث التي تحمل آلاف المعاني بين سطورها. ومن الجمل التي طرحت وكانت جديرة بالذكر أنَّ إحدى الأمهات قالت: “قضى ولدي لأنه عبَّر عن انتمائه وتأييده طرفاً دون آخر، وأنا لن أخطئ خطأه، ولن أفسح المجال لأيّ من أقربائي بأن يتحدث عن الحادثة، حتى لا نقع في الفخ نفسه. لكن إذا كان من الضروري أن أتكلم، فأنا أنصح كلّ أمّ، تعبت على تعليم ابنها وفرحت وهي تسمع عن إنجازاته في أيّ مجال، بأن تخيط فم ابنها بالإبرة والخيط، وألا تشجعه على الإفصاح عن رأيه وانتمائه لأيٍّ كان. نحن الأمهات تعبنا وربينا أبناءنا لنفتخر بهم وهم يبنون الوطن ويسهمون أكثر من غيرهم في تطويره.. ويحقّ لنا أن نصرخ في وجه أيّ كان بأن يبتعد عن أبنائنا المتميزين، وأن يتركهم وشأنهم ولا يغصبهم على تبني طرف دون آخر.. لا يمكن لعين أن تحزن أو قلب أن يتصدع كما يتصدع قلب الأم حين ترى من أنجبت وربت وتعبت وأملت في أن يدفنها مسجّى أمامها في الكفن، ينتظر أن تدفنه.. فارحموا الأمهات، وابتعدوا عن فلذات أكبادهن.. هناك أمهات يرمين أبناءهن إلى التهلكة لأنهم لم يفلحوا في الدراسة أو الإنجاز، ولكن هناك أمهات مثلنا؛ فأبناؤنا هم النور الذي نرى الدنيا من خلاله، وهاقد أطفؤوه. وأنا لا أقول من أطلق الرصاص وحده من أطفأه، بل من اضطره أيضاً للوقوف في المكان الذي يجعله عرضة للرصاص”.
المجتمع كجسد الإنسان؛ العلماء دماغه، والعمال يداه، والفلاحون معدته، والسياسيون قدماه.. فإذا اختفى العلماء بات المجتمع معاقاً يتلاطم ويتخبط يمنة ويسرى، وإذا اختفت يداه كان سقوطه على الأرض مؤلماً لن يقف بعده إلا بشقّ الأنفس، وإن اختفت معدته مات جوعاً، وإن قُطعت قدماه استقرَّ مكانه دون حركة وتملّكه العفن.. ألا يمكن لنا -نحن السوريين- أن نتغاضى عن مواقف الذين يضيع المجتمع وينهدم المستقبل دونهم، وهل يمكن لهؤلاء، الذين نعول على عقولهم لبناء المستقبل، أن يلزموا الصمت حفاظاً علينا وعلى وطننا؟..

View Original